جانيت يلين…من قاعات الجامعات إلى قمة الاقتصاد العالمي

في مشهدٍ اقتصادي وسياسي طغى عليه الحضور الذكوري لعقود، استطاعت جانيت يلين أن تكتب اسمها بأحرف بارزة، لا كامرأة كسرت الحواجز فحسب، بل كواحدة من أعمدة السياسات الاقتصادية الحديثة في الولايات المتحدة والعالم.
بخطى ثابتة ومعرفة راسخة، أصبحت أول شخصية في التاريخ الأمريكي تتولى قيادة أهم ثلاث مؤسسات اقتصادية: مجلس المستشارين الاقتصاديين، الاحتياطي الفيدرالي، ووزارة الخزانة.
وُلدت يلين في بروكلين عام 1946، ونشأت في بيئة تثمّن التعليم والعمل الجاد. درست الاقتصاد في جامعة براون ثم أكملت الدكتوراه في جامعة ييل تحت إشراف الاقتصادي الكبير جيمس توبين.
ملاحظاتها الدقيقة أصبحت مرجعًا تعليميًا يُعرف باسم “ملاحظات يلين”، ما يعكس عمقها الفكري منذ بداياتها الأكاديمية.
بعد تدريسها في جامعات مرموقة كـ”هارفارد” و”بيركلي”، بدأت رحلتها الطويلة داخل الاحتياطي الفيدرالي، لتتدرج في المناصب حتى أصبحت أول امرأة تقود هذه المؤسسة من 2014 إلى 2018، حيث شهد الاقتصاد الأمريكي في عهدها انخفاضًا مطردًا في البطالة واستقرارًا في الأسواق المالية.
حين عُيّنت وزيرة للخزانة في إدارة الرئيس جو بايدن عام 2021، كانت الولايات المتحدة تمر بمرحلة تعافٍ حرجة بعد جائحة كورونا. وبقيادتها الحازمة، طبقت خطة الإنقاذ الاقتصادي، ما أدى إلى خفض البطالة وتعافي النمو.
كما لعبت دورًا رياديًا في التفاوض على اتفاق ضريبي عالمي لإنهاء التهرب الضريبي عبر ما يُعرف بـ”الملاذات الآمنة”، في إنجاز دبلوماسي-اقتصادي تاريخي.
تُعرف يلين بانتمائها إلى مدرسة “السياسات التوسعية”، التي تعطي الأولوية لتوفير الوظائف وتحقيق النمو العادل. كانت أبحاثها، التي أنجزتها بالشراكة مع زوجها جورج آكرلوف (الحائز على نوبل)، موجهة لخدمة أهداف العدالة الاجتماعية، ومن أبرزها نظرية “أجور الكفاءة” التي توضح كيف أن الأجور المرتفعة تعزز من إنتاجية الموظفين واستقرارهم.
كما تُنادي يلين بـ”اقتصاد جانب العرض الحديث”، الذي يدعو إلى ضخ استثمارات حكومية ضخمة في البنية التحتية والتعليم والطاقة النظيفة، بهدف تحفيز النمو المستدام الشامل.
التقت يلين بزوجها أثناء عملهما في الاحتياطي الفيدرالي، وتحول زواجهما إلى علاقة فكرية مثمرة أنتجت العديد من الدراسات الاقتصادية المؤثرة. ابنهما روبرت آكرلوف يسير على خطاهما كأستاذ في الاقتصاد، في عائلة جعلت من هذا العلم رسالة حياتية.
بثروة تُقدّر بـ20 مليون دولار ومكانة أكاديمية عالمية، تظل جانيت يلين رمزًا للتفوق، ليس فقط لكونها امرأة في موقع سلطة، بل لكونها شخصية أعادت تعريف دور الاقتصادي في خدمة المجتمع. إرثها لا يُقاس بالسياسات فقط، بل بالفرص التي فتحتها للنساء، وبالرؤية التي حملتها عن اقتصاد أكثر عدلًا وشمولًا.
في زمن التحولات الكبرى، تبقى يلين شاهدًا حيًا على أن الحكمة، والمعرفة، والإنصاف يمكن أن تكون حجر الزاوية في قيادة أقوى اقتصاد في العالم.