جاري بيكر..الاقتصادي الذي فكَّ شفرة السلوك البشري بالمنطق الحسابي

هل تساءلت يومًا لماذا نتخذ قراراتنا الشخصية بنفس الطريقة التي نتخذ بها قرارات اقتصادية؟ هل يمكن أن يكون اختيار شريك الحياة أشبه بصفقة تجارية؟ وهل يُرتكب الجرم بعد موازنة دقيقة بين المخاطر والمكاسب؟ هذه التساؤلات التي قد تبدو غير مألوفة، هي بالضبط ما أجاب عليه الاقتصادي الأمريكي الحائز على جائزة نوبل، جاري بيكر، الذي قلب المفاهيم التقليدية للسلوك الإنساني رأسًا على عقب.
لم يكن بيكر اقتصاديًا تقليديًا محصورًا في أطر السوق والأسواق المالية فقط، بل كان رائدًا في توسيع نطاق الاقتصاد ليشمل مجالات المجتمع والنفس والجريمة.
من خلال تطبيقه لفكرة أن الإنسان يتصرف دائمًا بناءً على حسابات عقلانية تسعى لتعظيم المكاسب وتقليل الخسائر، قدّم بيكر رؤية جديدة تقول إن كل سلوك بشري، مهما بدا معقدًا أو عاطفيًا، هو قرار اقتصادي في جوهره.
وُلد جاري بيكر في بنسلفانيا عام 1930، وتخرج من جامعتي برينستون وشيكاغو، لينضم إلى مدرسة شيكاغو الاقتصادية العريقة، حيث بنى فرضيته الأساسية التي أثارت زلزالًا فكريًا: السلوك البشري ما هو إلا سلسلة من الخيارات التي يتخذها الأفراد لتعظيم منافعهم وتقليل تكاليفهم.
هذه النظرية في “الأنانية العقلانية” لا تقتصر على اختيارات السوق فقط، بل تمتد إلى أعمق مجالات حياتنا اليومية، من اختيار الزوجة أو الزوج، إلى كيفية تربية الأبناء، وحتى القرارات المتعلقة بالقانون والالتزام به.
استعرض بيكر الأسرة ككيان اقتصادي، أو “مصنع صغير” ينتج خدمات حيوية مثل الطعام ورعاية الأطفال. في هذا الإطار، قرارات الزواج، الطلاق، وتحديد عدد الأبناء ليست فقط خيارات عاطفية، بل تتعلق بحسابات الإنتاج والتكامل بين مهارات الشريكين لتعظيم “إنتاجية” الأسرة.
كما كان بيكر من أوائل من نظروا إلى التعليم كرأس مال بشري يستثمر فيه الفرد، مشبهًا إياه باستثمار الشركات في الآلات والمعدات، بهدف زيادة إنتاجية الفرد في المستقبل وتحقيق عوائد أكبر.
في رسالة الدكتوراه، أثبت بيكر بشكل رياضي أن التمييز العنصري في سوق العمل لا يشكل فقط خطأ أخلاقيًا، بل هو قرار اقتصادي خاطئ يؤدي إلى تقليل فرص الاستفادة من المواهب، ورفع التكاليف على أرباب العمل، مما يضعف قدرتهم على المنافسة.
تخطى بيكر خطوطًا حمراء في تحليله للجريمة وسوق الأعضاء البشرية:
-
الجريمة: اعتبر المجرم فاعلاً اقتصاديًا يزن العائد من الجريمة مقابل احتمال القبض والعقاب، ما دفعه إلى اقتراح تشديد العقوبات والغرامات كوسيلة أكثر فعالية للحد من الجرائم مقارنة بالبرامج الوقائية المكلفة.
-
سوق الأعضاء: طرح حلًا مثيرًا للجدل لمشكلة نقص الأعضاء البشرية، عبر السماح بوجود سوق منظمة لتعويض المتبرعين، معتبرًا أن الحظر الحالي هو السبب الرئيسي في الأزمة وأن الحوافز المالية قد تنقذ آلاف الأرواح.
على مدى حياته، حصل بيكر على جائزة نوبل ووسام الحرية الرئاسي، لكنه ظل شخصية مثيرة للجدل، إذ اتهمه البعض بتبسيط الإنسان إلى أرقام ومعادلات، بينما رآه آخرون مفكرًا عبقريًا قدّم أدوات تحليلية غير مسبوقة.
غادرنا في 2014، لكنه ترك إرثًا دائمًا يجعلنا نعيد التفكير في قراراتنا اليومية – من الزواج إلى التعليم، ومن الالتزام بالقانون إلى الانتهاك – من خلال منظور اقتصادي عميق يُبرز المنفعة والتكلفة في كل خيار نتخذه.