ثقة المستثمر في مهب الريح.. هل ما تزال التوقعات الاقتصادية مصدراً موثوقاً؟

لم يعد السؤال اليوم هو ماذا تتوقع المؤسسات الاقتصادية؟ بل هل يمكن الوثوق بتوقعاتها أصلًا؟ فمع اشتداد الاضطرابات الجيوسياسية، وتذبذب الأسعار، وتسارع التحولات التكنولوجية، أصبحت التوقعات المالية أقرب إلى “قراءة الطالع” منها إلى علمٍ دقيق، بعد أن أثبت الواقع مرارًا فشل حتى أكبر المؤسسات في استشراف اتجاه الأسواق.
فخلال عام 2025 وحده، وجدت مؤسسات دولية مرموقة مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومورغان ستانلي ومكتب الميزانية الأمريكي نفسها مضطرة لتعديل أرقامها وتوقعاتها أكثر من مرة.
فقد تغيرت المعطيات بسرعة تفوق قدرة النماذج الاقتصادية التقليدية على التنبؤ، وسط تضخم متقلب وأسعار فائدة مرتفعة وتوترات سياسية تمتد من واشنطن إلى بكين.
في مطلع 2024، كان بنك جي. بي. مورغان يتوقع هبوط مؤشر ستاندرد آند بورز 500 إلى 4200 نقطة، بينما رأى بنك أوبنهايمر أن موجة الذكاء الاصطناعي ستقوده نحو 5200 نقطة.

لكن العام انتهى بارتفاع غير متوقع تجاوز فيه المؤشر 6000 نقطة، ليكشف مجددًا هشاشة التوقعات أمام سرعة تغير المزاج الاقتصادي العالمي.
يرتبط هذا الفشل المتكرر بارتفاع مستويات عدم اليقين الاقتصادي عالميًا، وهو ما تؤكده مؤشرات صندوق النقد الدولي التي تظهر زيادة حادة في الضبابية منذ 2022.
ففي الولايات المتحدة وحدها، بلغ المؤشر في أكتوبر 2025 نحو 413 نقطة، بعد أن كان قد لامس الألف في مطلع 2024 إثر عودة ترامب إلى الحكم وسط غموض اقتصادي غير مسبوق.
حتى المؤسسات نفسها أصبحت أكثر تحفظًا في توقعاتها، إذ رفع صندوق النقد الدولي تقديره للنمو العالمي لعام 2025 من 3.0% إلى 3.2% بعد مراجعات متكررة، مبررًا ذلك بتغير السياسات التجارية الأمريكية وتراجع تأثير الرسوم الجمركية.
في المقابل، أثبتت بعض التوقعات دقة نسبية مثل تلك الصادرة عن مورنينغ ستار، التي تنبأت بطفرة في أسهم التكنولوجيا بفضل الذكاء الاصطناعي، وهو ما تحقق فعلاً مع قفزات لأسهم إنفيديا ومايكروسوفت وألفابت بنسبة تجاوزت 30%.
لم يعد الخلاف بين الاقتصاديين يقتصر على حجم النمو أو التضخم، بل اتسع ليشمل تفسير مستقبل الأسواق نفسها. ففيما تتوقع مؤسسات أن يهبط الذهب إلى 3500 دولار للأونصة بحلول 2026، ترى أخرى أنه قد يبلغ 8000 دولار في غضون عامين، في انعكاس لحالة الانقسام بين من يعتقد أن العالم مقبل على ركود قاسٍ، ومن يراهن على استمرار الطفرة التكنولوجية.

وتعتمد هذه الفجوة في الرؤى على الفلسفة الاقتصادية المتبناة: فهناك من يتبنى خطاب التحذير من انهيار مالي عالمي، كما يفعل الكاتب روبرت كيوساكي، وهناك من يرى أن الصراع التجاري بين القوى الكبرى ليس سوى مرحلة عابرة ستنتهي إلى تعاون جديد يقوده الابتكار والذكاء الاصطناعي.
أمام هذه التناقضات، بدأت المؤسسات تتخلى عن فكرة “التقدير الواحد” لصالح نموذج السيناريوهات المتعددة، حيث تُقدَّم مجموعة من الاحتمالات المرفقة بنسب ترجيح مختلفة، بدلًا من رقم ثابت للنمو أو التضخم. هذه المقاربة الجديدة جاءت بعد فشل النماذج الكلاسيكية – مثل منحنى فيليبس – في تفسير ظواهر ما بعد الجائحة، كارتفاع التوظيف رغم التضخم في الاقتصاد الأمريكي.
في عالم تحكمه المفاجآت، أصبح التحوط الذكي هو القاعدة الذهبية للمستثمرين: توزيع الاستثمارات بين الأصول متوسطة ومنخفضة المخاطر، وتجنب الرهانات المغامرة مهما بدت مغرية. فالأسواق اليوم لم تعد تُقاد بالبيانات فقط، بل بتغريدة من سياسي أو إشاعة حول شركة تكنولوجية أو صراع عابر في مضيق بحري.
ختامًا، يبدو أن عصر التنبؤات الاقتصادية الدقيقة يوشك على الأفول، ليبدأ عصر الاحتمالات المفتوحة، حيث تصبح المرونة والفهم المتجدد أهم من الثقة العمياء بالأرقام. فالمستقبل الاقتصادي لم يعد يُقرأ في التقارير الفصلية، بل في قدرة صانع القرار على التأقلم مع واقعٍ يتغير أسرع من أي نموذج إحصائي.




