تنامي التوترات العالمية يعيد تشكيل قواعد الاستثمار في الأسواق المالية

لم تعد الأسواق المالية تعمل في بيئة مستقرة يمكن التنبؤ بها، بل باتت تدور في فلك عالم مضطرب تُهيمن عليه النزاعات المسلحة والتوترات الجيوسياسية.
اليوم، لا تُقاس التقلبات فقط بالمؤشرات الاقتصادية أو نتائج الشركات، بل بما يجري في ميادين القتال، وعلى طاولات المفاوضات، وفي خطابات الزعماء.
فالأزمات الجيوسياسية لم تعد مجرد خلفية للأحداث الاقتصادية، بل أصبحت عنصرًا فاعلًا يُعيد رسم أولويات الاستثمار. من أوكرانيا إلى غزة، ومن مضيق تايوان إلى الخليج العربي، تتوالى الصدمات التي تدفع الأسواق إلى إعادة تموضع دائم.
مع كل تصعيد أو أزمة، تتبدل قواعد اللعبة: ترتفع أسعار الطاقة، تتجه السيولة نحو الملاذات الآمنة، وتتقلب أسهم القطاعات الحساسة كالدفاع والطاقة بسرعة مذهلة.
الحرب الروسية الأوكرانية، على سبيل المثال، كانت شرارة لارتفاع أسعار النفط من 90 إلى 130 دولارًا، ولقفزات ضخمة في أسعار القمح والغاز، ما أدى إلى تأجيج التضخم وإرباك سلاسل الإمداد.
أما في الشرق الأوسط، فقد أثرت الاشتباكات الأخيرة بين إيران وإسرائيل على أسواق المال، حيث تراجعت بعض المؤشرات المحلية، بينما حققت شركات الدفاع والطاقة الأمريكية مكاسب قوية، أبرزها سهم “لوكهيد مارتن” الذي قفز بأكثر من 15% خلال أسبوعين.
وفي آسيا، لا تزال التوترات حول تايوان وبحر الصين الجنوبي تشكل تهديدًا مباشرًا لسلاسل التوريد العالمية، خاصة في صناعة الرقائق الإلكترونية، وهي أحد أهم مفاصل الاقتصاد الرقمي الحديث.
الصراعات العسكرية عادة ما تعرقل التدفقات التجارية، وتؤدي إلى نقص في المواد الأولية، ما يرفع أسعارها بسرعة. ويؤكد صندوق النقد الدولي أن كل موجة تصعيد تؤدي إلى زيادة في أسعار النفط تتراوح بين 10 و15 دولارًا للبرميل.
كما ترتفع أسعار المعادن الصناعية مثل النيكل والألومنيوم، خاصة تلك المستخدمة في الصناعات الدفاعية.
الأسواق المالية من جهتها تدخل في مرحلة بيع جماعي مع اندلاع النزاعات، لكن بعض القطاعات كالدفاع والطاقة تعاود الصعود لاحقًا مدفوعة بزيادة الإنفاق العسكري وارتفاع أسعار السلع.
عندما تحتدم التوترات، يتجه المستثمرون سريعًا إلى الذهب والدولار الأمريكي والفرنك السويسري والين الياباني.
الذهب يرتفع عادة بنسبة تتراوح بين 3 و5% في بدايات الأزمات، في حين يُظهر مؤشر الدولار الأمريكي صعودًا بمتوسط 2 إلى 4%.
الخسائر الاقتصادية الناتجة عن العنف والصراعات المسلحة للفترة من 2019 إلى 2024
السنة |
خسائر الاقتصاد جراء العنف (بالتريليون دولار أمريكي) |
النسبة من الناتج المحلي العالمي (%) |
2019 |
14.5 |
10.6 |
2020 |
14.9 |
11.6 |
2021 |
16.5 |
10.9 |
2022 |
17.5 |
12.9 |
2023 |
19.1 |
13.5 |
2024 |
19.9 |
11.6 |
الاستثمار في العقارات الواقعة في مناطق جغرافية مستقرة هو خيار طويل الأجل يُفضله كبار المستثمرين، في حين أن الاحتفاظ بالنقد يكون مفيدًا على المدى القصير، رغم أن التضخم قد يقضم قيمته لاحقًا.
النجاة في سوق مملوء بالمفاجآت لا تأتي بالحظ، بل باستراتيجية ذكية تعتمد على:
تنويع الأصول: أسهم دفاعية، شركات الطاقة، المعادن، السلع الزراعية.
تنويع جغرافي: توزيع الاستثمارات على مناطق متعددة لتقليل التركز الجغرافي في مناطق التوتر.
التحوط بالذهب والعملات القوية: تخصيص ما بين 5 إلى 10% من المحفظة للذهب.
الاحتفاظ بسيولة تكتيكية: للاستفادة من فرص الشراء في فترات التراجع.
الاستثمار في صناديق متخصصة: مثل صناديق مؤشرات الدفاع والطاقة.
و في عصر تتغير فيه الخرائط كل يوم، لم يعد كافيًا أن يتتبع المستثمر تقارير الأرباح وأسعار الفائدة فقط، بل عليه أن يراقب تحركات الأساطيل العسكرية، ومفاوضات وقف إطلاق النار، وتحالفات القوى العظمى.
الأسواق لم تعد تكافئ من يهرب عند الأزمات، بل من يعرف كيف يعيد تشكيل محفظته، ويصمد بمرونة أمام العواصف.
وفي النهاية، لا يوجد استثمار خالٍ من المخاطر، لكن توجد استراتيجيات قادرة على امتصاص الضربات، وتحويل الأزمات إلى فرص. الاستثمار في زمن الحروب لم يعد مغامرة، بل أصبح فنًّا قائمًا على التحليل الجيوسياسي بقدر ما هو مالي.