تقرير : المغرب الأخضر والجيل الأخضر فاقما الفجوة المائية والاجتماعية في القطاع الفلاحي

لم تعد الفلاحة في المغرب قصة أرقام تصدير ومواسم ناجحة، بل تحولت إلى معادلة مقلقة تختلط فيها الأرباح السريعة بندرة مورد حيوي يوشك على النفاد.
فبينما تتصدر الخضر والفواكه المغربية أسواق الخارج، يتوارى في الخلف سؤال أكثر إلحاحًا: هل يملك المغرب ترف الاستمرار في هذا النموذج الزراعي في زمن العطش البنيوي؟
هذا السؤال الجوهري تضعه ورقة تحليلية حديثة صادرة عن المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة في قلب النقاش العمومي، مقدمة تشريحًا دقيقًا لنموذج فلاحي حقق قفزة اقتصادية واضحة، لكنه فعل ذلك على حساب توازن مائي هش، وفي لحظة دخل فيها المغرب رسميًا مربع الفقر المائي المطلق.
الوثيقة ترى أن ما تحقق خلال عقد ونصف من السياسات الفلاحية، من “المغرب الأخضر” إلى “الجيل الأخضر”، لا يمكن إنكاره على مستوى الاستثمار والتصدير وتحديث سلاسل الإنتاج.
غير أن هذه القفزة، حسب التحليل، بُنيت على مفارقة خطيرة: توسع فلاحي بنفس الوتيرة، رغم انكماش الموارد المائية واشتداد الجفاف.
وتعود الورقة إلى الجذور، مبرزة أن الفلاحة المغربية ظلت لعقود منقسمة بين نموذجين: فلاحة مسقية حديثة موجهة للتصدير في مناطق مثل الغرب واللوكوس وسوس-ماسة، وفلاحة بورية معيشية هشّة، رهينة الأمطار، وتشكل العمود الفقري للعالم القروي.
هذا الانقسام لم يُعالَج جذريًا، بل تعمّق مع إطلاق “مخطط المغرب الأخضر” سنة 2008، الذي راهن على القيمة المضافة والتنافسية، دون إدماج فعلي للفلاحة الصغيرة في دورة اقتصادية متوازنة.
بين 2008 و2018، تضاعف حجم الاستثمارات ليصل إلى 104 مليارات درهم، وارتفعت الصادرات إلى أكثر من 3 ملايين طن، كما توسعت المساحات المسقية بالري الموضعي بشكل لافت. لكن الورقة تؤكد أن هذه المؤشرات الإيجابية أخفت خللًا هيكليًا عميقًا.
فالدعم العمومي الموجه لترشيد الماء، خاصة عبر السقي الموضعي، شابه ضعف في التتبع والنجاعة، وتحول في حالات كثيرة إلى امتياز تستفيد منه الفلاحة العصرية القادرة على الاستثمار، بينما بقي الفلاح الصغير خارج معادلة التحول.
ومع توالي سنوات الجفاف، اتسعت الفجوة أكثر بين فلاحة التصدير المزدهرة وفلاحة القوت التي ازدادت هشاشة.
مع إطلاق استراتيجية “الجيل الأخضر” سنة 2020، حاولت الدولة تصحيح المسار عبر أهداف اجتماعية واضحة: إدماج الشباب، خلق طبقة فلاحية وسطى، تعميم تقنيات الاقتصاد في الماء. غير أن الورقة تعتبر أن التنفيذ اصطدم بثلاث صدمات متتالية: الجائحة، الجفاف المتواصل، واتساع الهوة الاجتماعية.
ورغم المشاريع المعلنة، ظلت البنية المائية المنهكة عنصرًا معطِّلًا لأي انتقال فعلي نحو الاستدامة. والدليل، حسب الوثيقة، رقم صادم: فقدان 965 ألف منصب شغل فلاحي بين 2018 و2023، في قطاع يشغل أزيد من ربع اليد العاملة الوطنية.
هذا التراجع يعكس انهيار الزراعات البورية، تسارع الهجرة القروية، وتآكل الدور الاجتماعي التاريخي للفلاحة.
في جانب الأمن الغذائي، تدق الورقة ناقوس الخطر. فرغم الاستثمارات الضخمة، لا يزال المغرب يعتمد بشكل كبير على استيراد الحبوب، خصوصًا في سنوات الجفاف، ما يجعل السوق الدولية عاملًا مباشرًا في تحديد أسعار الغذاء داخليًا. وبحسب التحليل، لم تعد التبعية الغذائية احتمالًا نظريًا، بل واقعًا موثقًا بالأرقام.
وتلخص الوثيقة هذا الاختلال بجملة مفصلية: “لا سيادة غذائية دون سيادة مائية”.
أخطر ما تكشفه الورقة هو ما تسميه بـ“تصدير الماء الافتراضي”. فزراعات مثل الأفوكادو والبطيخ الأحمر، الموجهة للتصدير، تستهلك كميات هائلة من المياه في مناطق تعاني أصلًا من الإجهاد المائي.
الهكتار الواحد من الأفوكادو يبتلع نحو 8000 متر مكعب سنويًا، فيما يحتاج الكيلوغرام الواحد إلى قرابة 1000 لتر من الماء. أما البطيخ الأحمر، فيتراوح استهلاكه بين 3800 و4300 متر مكعب للهكتار.
هذه الزراعات، المنتشرة في أحواض منهكة كسوس-ماسة وزاكورة والحوز، تجاوزت القدرة الطبيعية للفرشات الجوفية على التجدد، ما أدى إلى تراجع مياه الشرب، وظهور ما بات يُعرف بـ“الهجرة المائية”.
الورقة لا تُحمِّل المسؤولية لعامل واحد، بل تبرز خلل التنسيق بين السياسات العمومية. ففي الوقت الذي تواصل فيه وزارة الفلاحة تشجيع التوسع المسقي والتصدير، تعلن وزارة الماء حالة الطوارئ المائية. هذا التناقض، في غياب حكامة موحدة وتقييم مستقل للاستدامة، يعمّق الأزمة بدل احتوائها.
كما تشير الوثيقة إلى اختلالات العدالة المجالية، حيث حظيت مناطق السقي بالدعم والبنيات التحتية، فيما تُركت المناطق البورية، التي تضم غالبية الفلاحين الصغار، لمواجهة الجفاف وحدها.
رغم نبرتها التحذيرية، لا تسقط الورقة في التشاؤم، بل تقترح مسارًا بديلًا يقوم على إعادة توجيه الدعم نحو الزراعات الغذائية، منع الزراعات المفرطة الاستهلاك للماء في المناطق الجافة، تسريع تحلية مياه البحر وربطها بخيارات فلاحية واضحة، ودعم التعاونيات والتنسيق الحكومي الصارم.
الخلاصة التي تصل إليها الوثيقة واضحة: المغرب مطالب بالانتقال من منطق “الإنتاج بأي ثمن” إلى منطق “الإنتاج المستدام”، لأن معركة الفلاحة المقبلة لن تُحسم في الأسواق الخارجية، بل في القدرة على حماية آخر قطرة ماء.
وفي نهاية المطاف، تبدو الفلاحة المغربية وكأنها تراكم المكاسب فوق أرض تتآكل من تحتها. وبدون حسم جذري في معادلة الماء، سيبقى كل نجاح فلاحي مؤقتًا، وكل موسم تصدير مؤجِّلًا لأزمة أكبر.




