تحرير الدرهم: مغامرة اقتصادية أم ضرورة تمليها المؤسسات الدولية؟

في الوقت الذي تسخّر فيه الحكومة المغربية ترسانتها التواصلية لترويج خطاب “الاستثناء الاقتصادي” و”السيادة الصناعية” التي لا تُقهر، اختار عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، أن يتقمص دور “الضمير اليقظ” الذي لا تجرفه العواطف السياسية.
بصرامته المعهودة، وضع الجواهري النقاط على الحروف، محولاً ندوته الصحفية الأخيرة إلى مرآة عاكسة للهوة السحيقة بين “صمود” تروج له الدوائر الوزارية، و”هشاشة صامتة” يرصدها البنك المركزي في مفاصل الاقتصاد الوطني.
لم يكن حديث الجواهري مجرد عرض تقني للأرقام، بل كان “فيتو” صريحاً في وجه تطلعات سياسية كانت تمني النفس بالهروب نحو “التعويم الشامل” لتبييض حصيلتها أمام المؤسسات الدولية.
بكلمات من رصاص، صرح الجواهري: “لم نصل إلى مرحلة التعويم بعد”.
خلف هذه العبارة المقتضبة، تقبع مخاوف عميقة من تكرار “الكارثة المصرية” في الرباط. وتؤكد مصادر مالية أن التقارير التي ترفع لوالي بنك المغرب تحذر من أن أي تحرير غير محسوم للدرهم في ظل الظروف الحالية قد يؤدي إلى فقدان السيطرة على الأسعار، تماماً كما حدث في القاهرة حين التهم التضخم الأخضر واليابس وتجاوزت نسبته 30%.
بالنسبة للجواهري، الحفاظ على “السلم الاجتماعي” يمر حتماً عبر استقرار العملة؛ فأي تراجع للدرهم يعني مباشرةً اشتعالاً في جيوب المغاربة الذين لا يحتمل وضعهم “مغامرة” نقدية غير مأمونة العواقب، خاصة مع ارتهان السوق الوطنية لتقلبات أسعار الطاقة والغذاء العالمية.
بينما لا تفوت الحكومة فرصة دون التباهي بتجاوز صادرات السيارات سقف 140 مليار درهم، يرى بنك المغرب أن هذه الأرقام، رغم بريقها، هي “شجرة تخفي غابة” من الاختلالات الهيكلية:
العجز التجاري المزمن: لا يزال يمتص أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي، مما يحد من أثر الطفرة التصديرية.
ضعف القيمة المضافة: المغرب يصدر جزءاً كبيراً مما يستورده (المدخلات)، مما يجعل نمو الصادرات رهيناً بنمو موازٍ للواردات، في حلقة مفرغة ترهق العملة الصعبة.
تبعية الاستهلاك: عجز الصادرات عن تغطية الفاتورة الطاقية والغذائية المتنامية، مما يضعف “المظلة الواقية” للدرهم في حالة التعويم.
تشير كواليس المؤسسة النقدية إلى أن تحفظ الجواهري يستند إلى مؤشرات “مقلقة” يتم القفز عليها في الخطابات السياسية، نلخصها في الجدول التالي:
| واقع “بنك المغرب” | الرواية الحكومية | الملف |
| أداء جيد لكنه غير كافٍ لضبط الميزان التجاري | قاطرة للنمو العالمي | قطاع السيارات |
| خطر محدق بالقدرة الشرائية وتوقيت “انتحاري” | انتقال نحو اقتصاد مرن ومنافس | تحرير الدرهم |
| استثمارات “رأسمالية” لا تنعكس بقوة على خلق الشغل | المغرب “مغناطيس” عالمي | الاستثمارات |
| عبء ثقيل يقلص هامش المناورة النقدية والمالية | تحت السيطرة وبغرض التنمية | المديونية |
إن الصدام الصامت بين “تفاؤل الوزراء” و”حذر الجواهري” يضع الرأي العام أمام خيارين: إما تصديق الوعود السياسية بالرخاء القادم، أو الإنصات لتحذيرات “حارس بيت المال” الذي يرى في التعويم اليوم “قنبلة موقوتة”.
رسالة الجواهري المشفرة للدوائر السياسية كانت واضحة: لن نضحي بالاستقرار النقدي من أجل “صورة تسويقية” أمام صندوق النقد الدولي.
ففي اقتصاد لا يزال يتنفس برئة الخارج، يظل التعويم الشامل “مؤجلاً” إلى إشعار آخر؛ ليس لغياب الشجاعة، بل لأن الواقع الاقتصادي المثقل بالأزمات لا يملك حالياً “مظلة نجاة” تقيه من ارتطام محقق بالأرض.




