الميراث والابتكار: سيناريوهات مستقبل الشركات العائلية في ظل الثورة التكنولوجية

تعتبر الشركات العائلية حجر الزاوية في اقتصادات العالم، فهي تشكل الجزء الأكبر من القطاع الخاص وتوفر ملايين الوظائف، كما تسهم بشكل ملحوظ في الناتج المحلي الإجمالي للدول.
لكن مع تسارع الابتكار التكنولوجي، من التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي إلى التجارة الإلكترونية والأتمتة، تجد هذه الشركات نفسها أمام تحديات وجودية غير مسبوقة.
في حين استطاعت بعض الشركات العائلية دمج التكنولوجيا لتعزيز النمو وضمان الاستمرارية عبر الأجيال، يواجه بعضها الآخر خطر التراجع أو حتى الخروج من السوق إذا فشل في التكيف مع المتغيرات الجديدة.
وتكمن خصوصية هذه الشركات ليس فقط في دورها الاقتصادي، بل في طبيعة إدارتها التي تعتمد على الروابط العائلية، وتداخل الملكية مع القيادة، والاعتماد على الخبرة المتراكمة أكثر من النماذج الإدارية الحديثة.
هذا المزيج منح الشركات العائلية القدرة على الصمود أمام الأزمات الاقتصادية، لكنه جعلها أكثر حساسية للتحولات التكنولوجية السريعة التي تتطلب قرارات جريئة واستثمارات طويلة الأمد وتغييرًا ثقافيًا في أسلوب العمل.
تواجه الشركات العائلية اليوم لحظة حاسمة، إذ تدرك الغالبية أهمية التحول الرقمي، بينما يرى عدد أقل منها أنها مستعدة لتطبيقه بشكل فعلي.
تشير بيانات مسح الشركات العائلية العالمي 2025 الصادر عن برايس ووترهاوس كوبرز (PwC) إلى أن التكنولوجيا والتحول الرقمي تصنف ضمن أولوياتها الاستراتيجية، حيث اعتبر 65% التطور التكنولوجي أولوية رئيسية، و64% وضعوا التحول الرقمي في صميم استراتيجياتهم المستقبلية، فيما يرى 60% أن الذكاء الاصطناعي فرصة حقيقية للنمو.
غير أن هذا الوعي لم يترجم دائمًا إلى خطوات عملية، إذ يباشر عدد محدود فقط إعادة تصميم نماذج الإدارة أو رقمنة العمليات بالكامل، بينما تفضل الكثير من الشركات الحفاظ على نماذجها التقليدية، ما يؤدي إلى بطء التكيف مقارنة بالمنافسين الأكثر اعتمادًا على التكنولوجيا.

تشير الدراسات إلى أن الشركات العائلية ذات النضج الرقمي الأعلى تتمتع بمرونة وقدرة تنافسية أكبر، خصوصًا في الأسواق التي تقودها التكنولوجيا.
يعد التحدي التكنولوجي أبرز العقبات التي تواجه الشركات العائلية، إذ تتداخل العوامل الثقافية والتنظيمية مع صعوبة تبني التحول الرقمي.
ثقافة هذه الشركات القائمة على التقاليد والحذر في المخاطرة تجعل التغيير التدريجي أكثر شيوعًا، وهو ما قد يحد من الابتكار رغم ضمان الاستقرار.
أبحاث أكاديمية أكدت أن التوجه الريادي والقدرة على تبني التكنولوجيا يمثلان عاملين حاسمين لتعزيز الابتكار. ومع ذلك، تشير بيانات سابقة إلى أن 62% من الشركات العائلية تعاني ضعفًا في القدرات الرقمية، و19% فقط تعتبر تحولها الرقمي متقدمًا. في الأسواق الناشئة، لا تمتلك 62% خطة واضحة للتحول الرقمي، ويعتبر 70% نقص الكفاءات الرقمية عقبة رئيسية.
تزداد التحديات عند انتقال القيادة بين الأجيال، إذ يتردد الجيل المؤسس أحيانًا في تسليم القيادة لأجيال أصغر تتمتع برؤى رقمية متقدمة، ما يبطئ تنفيذ استراتيجيات التحول الرقمي.
في مسح حديث، أشار 57% من الجيل القادم إلى أن تردد الجيل الحالي يمثل عائقًا كبيرًا، فيما يرى 39% مقاومة داخل الأسرة تجاه التغيير.
لم تعد استدامة الشركات العائلية تعتمد فقط على الروابط العائلية أو قوة العلامة التجارية، بل على قدرتها على توظيف التكنولوجيا بفعالية. إذ تشير الدراسات إلى أن نحو 30% فقط من الشركات العائلية تنتقل إلى الجيل الثاني بنجاح، وتقل نسبة البقاء إلى الجيل الثالث إلى 12–13%.
الاستثمار المبكر في التحول الرقمي يعزز فرص النمو والاستمرارية، ويمكن الشركات من التوسع الجغرافي وتنويع مصادر الإيرادات. كما أن الشركات ذات النضج الرقمي الأعلى أظهرت مرونة أكبر أثناء الأزمات العالمية، وانخفضت تكاليف التشغيل والأخطاء التشغيلية بفضل الأتمتة والأنظمة الرقمية.
الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات يدعمان القرارات التسويقية والتسعيرية، ما يحسن الهوامش الربحية ويجعل التكنولوجيا الفارق الأساسي بين الشركات القادرة على الاستمرار وتلك المعرضة للتراجع.
تعد شركات مثل روبرت بوش الألمانية وميشلان الفرنسية أمثلة ناجحة على دمج التكنولوجيا مع الحفاظ على النموذج العائلي. استثمرت بوش في الإنترنت الصناعي والتحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، بينما اعتمدت ميشلان على تحليل البيانات وإدارة الأساطيل الرقمية لتعزيز الكفاءة والتنوع في مصادر الإيرادات.
في آسيا، أظهرت شركات مثل سامسونغ الكورية وتاتا الهندية كيف يمكن الجمع بين الإرث العائلي والابتكار التكنولوجي للتوسع عالميًا. استثمرت هذه الشركات في البحث والتطوير، والخدمات السحابية، والحلول الرقمية لتعزيز الكفاءة وتوسيع الأسواق.
تؤكد التجارب والدراسات أن الشركات العائلية قادرة على الاستمرار والازدهار في ظل التحولات الرقمية، شرط اعتبار التحول الرقمي أولوية استراتيجية، لا خيارًا مؤجلًا. فالتكنولوجيا لم تعد تهديدًا، بل أداة لتعزيز الكفاءة، وتوسيع الأسواق، وبناء مرونة تضمن مواجهة الصدمات المستقبلية بنجاح.




