المعادن النادرة.. الصراع الخفي الذي يحدد مستقبل القوة العالمية

بعيدًا عن أضواء المدن الكبرى، تتربّع مصفاة ووشي على بُعد ساعة من شنغهاي كقلعة صناعية تتحكم في نبض التكنولوجيا الحديثة.
داخل أسوارها، لا تتوقف عجلات الإنتاج عن العمل، حيث تتحوّل خامات معدنية نادرة إلى عناصر دقيقة تغذي رقائق الحواسيب وأنظمة الدفاع الأكثر تقدّمًا في العالم.
في قلب هذه المصفاة، يُستخرج معدن الديسبروسيوم بنقاء استثنائي، وهو عنصر نادر، لا يعرفه كثير من الناس، لكنه حجر الزاوية في تصنيع الرقائق الإلكترونية الحديثة. شركات عالمية مثل “إنفيديا” تعتمد عليه في مكثفات الطاقة داخل رقائقها لتعزيز تحملها للحرارة وتحسين أدائها.
و على الرغم من الاسم، فإن هذه المعادن متوفرة بكميات كبيرة في التربة، لكن صعوبة استخراجها تكمن في تشتتها وارتباطها بعناصر أخرى، ما يجعل عمليات المعالجة مكلفة ومعقدة بيئيًا.
مع تسارع التحول نحو الطاقة النظيفة، أصبحت هذه المعادن ضرورية لتشغيل توربينات الرياح، وبطاريات السيارات الكهربائية، التي تتطلب حوالي 10 كيلوجرامات من هذه العناصر لكل مركبة.

كما تعتمد الصناعات الدفاعية على هذه المعادن في أنظمة الرادار، التوجيه، والرؤية الليلية، بالإضافة إلى المقاتلات والغواصات، ما يجعل السيطرة على سلاسل التوريد عاملًا حاسمًا للقوة العالمية.
في خمسينيات القرن الماضي، كانت الولايات المتحدة رائدة في استخراج المعادن النادرة، من خلال منجم “ماونتن باس” في كاليفورنيا، قبل أن تتراجع سيطرتها بعد عام 1991. في المقابل، أصدرت الصين قانونًا يجعل هذه المعادن “استراتيجية”، وحظرت على الشركات الأجنبية الوصول إلى بعض الرواسب، بينما طوّرت سلاسل التكرير محليًا.
بحلول منتصف التسعينيات، سيطرت الشركات الصينية المدعومة حكوميًا على الجزء الأكبر من السوق العالمي، لتصبح بكين اليوم مسؤولة عن نحو 69% من الإنتاج و90% من عمليات التكرير، بل تتحكم بالكامل في بعض المعادن.
أكثر الدول المنتجة للمعادن الأرضية النادرة في العالم 2024
|
الدولة |
الإنتاج (ألف طن) |
|
الصين |
270 |
|
الولايات المتحدة |
45 |
|
ميانمار |
31 |
|
أستراليا |
13 |
|
تايلاند |
13 |
وفي أكتوبر الماضي، أعلنت الصين ضرورة حصول أي كيان أجنبي على تراخيص لتصدير منتجات تحتوي على أكثر من 0.1% من المعادن النادرة، ما أثار مخاوف الصناعات التكنولوجية والدفاعية الغربية.
بدأت الولايات المتحدة والدول الغربية منذ مطلع القرن الحالي بإعادة ترتيب أوراقها بعد إدراك الهيمنة الصينية، خاصة بعد تعطل الإمدادات وارتفاع الأسعار إثر جائحة كورونا.
شملت الجهود بناء مصانع جديدة، التعاون مع أوكرانيا وأستراليا، والاستثمار في شركات ناشئة متخصصة.
لكن الخبراء يحذرون أن إنشاء مناجم ومصافي جديدة يحتاج سنوات طويلة، ما يعني أن الهيمنة الصينية ستستمر لعقود. تقديرات شركة “CRU” تشير إلى أن المناجم خارج الصين لن تلبي أكثر من 35% من الطلب العالمي على المعادن النادرة بحلول 2035.

يتصاعد الطلب على المعادن النادرة مع توسع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، الحوسبة الكمومية، وبنية الاتصالات المتقدمة. السيطرة على هذه الإمدادات تمنح التفوق التكنولوجي والعسكري وورقة ضغط استراتيجية في السياسة العالمية.
وتشير وكالة الطاقة الدولية إلى ضرورة مضاعفة الإنتاج العالمي سبعة أضعاف لتلبية احتياجات الطاقة النظيفة وحدها بحلول 2040، ما يضاعف أهميتها في المستقبل.
من ووشي إلى واشنطن، يبدو أن الصراع القادم لن يُحسم بالقوة العسكرية وحدها، بل بعنصر صغير لا يُرى بالعين المجردة، قادر على رسم خرائط النفوذ العالمي: المعادن النادرة.




