الصين تتجاوز التعريفات الأمريكية وتثبت قوتها التجارية عالمياً

وسط ضغوط جمركية غير مسبوقة فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على البضائع الصينية، استطاعت الصين أن تحول التحدي إلى فرصة، محققة فائضًا تجاريًا قياسيًا أعاد رسم ملامح التجارة الدولية.
لم يوقف الضغط الأمريكي عجلة الاقتصاد الصيني؛ بل اعتمدت بكين استراتيجية مرنة أظهرت قدرة استثنائية على إعادة توجيه صادراتها، ليصل فائضها التجاري إلى تريليون دولار خلال أول 11 شهرًا من العام، وهو رقم غير مسبوق لم تشهده أي دولة أخرى وفق بيانات الجمارك الصينية.
مع تصاعد التوترات التجارية، عمد المصنعون الصينيون إلى تسريع صادراتهم لتفادي أي صدمة محتملة، بعد وعود ترامب بفرض رسوم عقابية على السلع الصينية لسد العجز التجاري الأمريكي.
نتيجة لهذه الاستراتيجية، انخفضت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بنسبة 18.3%، بينما ارتفعت إلى أوروبا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا بمعدلات بلغت 8.9% و14.6% و27.2% على التوالي، ما يعكس نجاح بكين في تقليل الاعتماد على السوق الأمريكي وتنويع قنوات تصديرها.
لكن الفائض التجاري يعكس أيضًا تحديات داخلية، أبرزها ضعف الطلب المحلي وتراجع ثقة المستهلكين، وهو ما يثير تساؤلات حول استدامة النمو الاقتصادي في الداخل.
تاريخيًا، شكّل قطاع التصنيع العمود الفقري للاقتصاد الصيني، ما أكسب الصين لقب “مصنع العالم” وقدرة كبيرة على إعادة توجيه الصادرات بسرعة.
خطة “صنع في الصين 2025″، التي أطلقتها بكين قبل أكثر من عقد، ضخت استثمارات هائلة في القطاعات الاستراتيجية والتقنية، مع الحفاظ على الصناعات التقليدية، ما عزز الإنتاجية وأتاح للصين السيطرة على الأسواق العالمية.
نتيجة لذلك، ارتفعت الصادرات الصينية بنحو 45% خلال السنوات الخمس الماضية وفق شركة نومورا للخدمات المالية، مع قدرة فائقة على إنتاج سلع عالية الحجم بأسعار منخفضة، ما يضع الدول الأخرى في مواجهة صعوبة المنافسة ويزيد اعتماد الأسواق الناشئة على منتجاتها.
على الرغم من النجاح الخارجي، يشير الخبراء إلى أن جزءًا من النمو يعود إلى عمليات إعادة التصدير عبر دول جنوب شرق آسيا، ما يقلل من فعالية التعريفات الأمريكية لكنه يطرح تساؤلات حول قدرة الاقتصاد على الاستمرار بنفس الوتيرة على المدى الطويل.
كما يواجه الاقتصاد الصيني تباطؤًا في قطاع العقارات، ارتفاعًا في البطالة بين الشباب، وضعفًا في الاستهلاك المحلي، حيث ارتفعت الواردات بنسبة 0.2% فقط خلال الأشهر الأحد عشر الأولى من العام، ما يعكس محدودية الطلب الداخلي.

النجاح الصيني في التصدير أثار مخاوف شركاءها التجاريين، إذ أعرب الاتحاد الأوروبي والهند والبرازيل عن قلقهم من “إغراق الأسواق” بمنتجات منخفضة التكلفة، ما دفع الاتحاد الأوروبي لفرض تعريفات مضادة على بعض السلع الصينية.
كما تواجه الصين ضغوطًا تضخمية منخفضة داخلية، خصوصًا في قطاعات السيارات الكهربائية والتجارة الإلكترونية ومواد البناء، حيث أدى التنافس الشديد إلى حرب أسعار قاسية.
وسط هذه التحديات، تظل الصادرات دعامة رئيسية للاقتصاد الصيني، مع اعتماد الحكومة على سياسة مالية نشطة ونقدية معتدلة لدعم الاقتصاد خلال العام المقبل، والاستعداد لإطلاق خطة التنمية الاقتصادية للخمس سنوات القادمة (2026–2030)، مع التركيز على التكنولوجيا والتصنيع والطيران والنقل والفضاء الإلكتروني.

استراتيجية الصين في مواجهة التعريفات الأمريكية، المبنية على تنويع الأسواق وتعزيز القوة الصناعية وإعادة التصدير، لم تضمن لها الصمود فحسب، بل مكنت الاقتصاد من تحقيق فائض تجاري تاريخي.
ومع ذلك، تبقى التحديات الداخلية والتحذيرات الدولية قائمة، لتظل السنوات المقبلة اختبارًا حقيقيًا لقدرة الصين على موازنة النمو الخارجي مع الاستقرار الداخلي.
الصادرات الصينية اليوم ليست مجرد أرقام، بل انعكاس لمرونة الدولة واستراتيجيتها المحكمة في عالم تجاري متغير، حيث تتحول كل أزمة إلى فرصة لإعادة الابتكار وإعادة توجيه المسار الاقتصادي.




