السيولة الفائضة: معضلة تعيق التعافي الاقتصادي

في ظل الأزمات الاقتصادية الكبرى، تلجأ الحكومات والبنوك المركزية عادة إلى أدواتها التقليدية لتحفيز النمو، مثل خفض أسعار الفائدة وزيادة المعروض النقدي.
لكن ماذا يحدث عندما تفقد هذه الأدوات فعاليتها؟ هنا يتسلل الاقتصاد إلى إحدى أعقد المعضلات المعاصرة، المعروفة بـ “فخ السيولة”.
فخ السيولة هو حالة استثنائية تفقد فيها السياسة النقدية قدرتها على تنشيط الاقتصاد، رغم وفرة السيولة في السوق. ففي أوقات الركود أو التباطؤ الحاد، يتجه الأفراد والشركات إلى الاحتفاظ بالنقد بدلاً من إنفاقه أو استثماره، بسبب تراجع الثقة وتوقعات مستقبلية سلبية.
حتى مع خفض أسعار الفائدة إلى مستويات قريبة من الصفر، تظل الاستجابة الاقتصادية ضعيفة أو شبه معدومة.
متى يتشكل فخ السيولة؟
تحدث هذه الظاهرة في حالات محددة:
اقتراب سعر الفائدة الاسمي من الصفر: مما يحد من قدرة السياسة النقدية على تحفيز الاقتصاد.
ركود اقتصادي أو كساد: يؤدي إلى تراجع الطلب الكلي وانخفاض الثقة الاستثمارية.
فقدان فعالية السياسة النقدية: حيث لا تؤدي زيادة السيولة إلى زيادة الإنفاق أو الإنتاج الحقيقي.
في هذه الحالة، يصبح الطلب على النقد شديد المرونة. حتى مع ضخ المزيد من السيولة أو خفض الفائدة، يفضل الناس الاحتفاظ بالنقد بدافع الحذر، ما يؤدي إلى تراجع الاستثمار وضعف القدرة الشرائية. ينتج عن ذلك انكماش اقتصادي مستمر.
يتفاقم الوضع مع ارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية، بسبب التضخم السلبي، مما يزيد أعباء الديون ويضعف ثقة المستهلكين والمستثمرين، ويهدد استقرار النظام المالي.
دروس من الماضي: الكساد الكبير واليابان
الكساد الكبير (1929-1939): شهد تضخمًا سلبيًا حادًا وانهيارًا في الثقة المالية، واستمر الركود حتى الحرب العالمية الثانية. ويُعزى جزء من الفشل إلى السياسات النقدية الانكماشية آنذاك.
اليابان (1995-2005): عانت من انكماش اقتصادي وعجز في تحفيز الاقتصاد رغم سعر فائدة منخفض للغاية، مع تفاقم الأزمة بسبب انكماش الائتمان من البنوك.
في كلتا الحالتين، لعبت الأزمات البنكية وتراكم الديون دورًا رئيسيًا في تعميق فخ السيولة، حيث عزفت البنوك عن الإقراض، مما زاد من تعقيد الأزمة.
انكماش الائتمان: دوامة أزمة السيولة
لجأت البنوك إلى تقليص القروض لتقليل المخاطر، لكن هذا النهج زاد من ضعف الإنتاج والاستثمار والتوظيف، مما عمّق الأزمة ودفع الاقتصاد إلى مزيد من الركود.
و مع عدم فعالية السياسة النقدية التقليدية، تحولت الاقتصادات الكبرى إلى أدوات جديدة:
التيسير الكمي: شراء البنوك المركزية للأصول المالية مثل السندات الحكومية لرفع أسعارها، خفض العوائد، وزيادة السيولة لدى المؤسسات المالية، مما يعزز الإنفاق والاستثمار. استُخدمت هذه الأداة في اليابان منذ 1999، وفي الولايات المتحدة بعد الأزمة المالية العالمية.
السياسة المالية التوسعية: زيادة الإنفاق الحكومي المباشر على البنية التحتية والمشروعات العامة، كما حدث في الولايات المتحدة خلال “الصفقة الجديدة” في 1933، وأيضًا في اليابان التي أنفقت تريليونات الين على مشاريع عامة لتجاوز الركود.
كما أثارت جائحة كوفيد-19 والأزمات التضخمية التي تبعتها تساؤلات حول دخول الاقتصادات الكبرى في “فخ السيولة الجديد”. فقد بقيت أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة أو سالبة في بعض المناطق، مع استمرار ضعف الاستجابة الاستثمارية.
ومع زيادة المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية، ازداد الادخار الاحتياطي على حساب الإنفاق، ما يضع الاقتصاد في حلقة من الجمود.
فخ السيولة يمثل تحديًا عميقًا للفكر الاقتصادي التقليدي. عندما تفشل الأدوات المعتادة، تصبح الحاجة ملحة لتطوير سياسات نقدية ومالية مبتكرة، وإعادة التفكير في دور الدولة والقطاع الخاص.
لكن العنصر الأهم لفك هذا الجمود هو الثقة — في المستقبل، في المؤسسات المالية، وفي قدرة الحكومات على مواجهة الأزمات. فقط عبر استعادة الثقة يمكن للاقتصاد الخروج من قبضة فخ السيولة وإعادة دفع عجلة النمو.