الجهوية المتقدمة في المغرب..مشروع طموح رهين بعراقيل بنيوية وهيمنة مركزية

منذ صدور دستور 2011، انطلقت ورشة “الجهوية المتقدمة” في المغرب كخطوة استراتيجية حاسمة تهدف إلى تحقيق تنمية محلية متوازنة، وتعزيز اللامركزية، وتمكين الجهات من إدارة مواردها البشرية والمادية بشكل ذاتي.
ورغم مرور أكثر من خمسة عشر عامًا على بداية هذا المشروع الطموح، ما تزال نتائج التطبيق دون المستوى المأمول، مما يفتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول الأسباب التي تقف وراء تعثر هذا التحول المؤسسي.
تشير دراسة حديثة إلى وجود أعطاب بنيوية تعيق تنفيذ الجهوية المتقدمة، أبرزها استمرار تداخل الاختصاصات بين الإدارات المركزية والجماعات الترابية وضعف نظام اللاتمركز الإداري.
هذا الواقع خلق فجوة كبيرة بين النصوص الدستورية التي رسمت صورة الجهوية الطموحة، وبين التنفيذ الفعلي على الأرض.
فالحكومات المتعاقبة لم تتمكن من فك السيطرة المركزية، التي لا تزال تسيطر على التدبير المحلي، مستندة إلى نموذج إداري فرنسي تقليدي غير ملائم للسياق المغربي.
هذا النمط الإداري المتصلب يعكس مدى الصعوبة في تفكيك هيمنة وزارة الداخلية، التي تعد أحد أبرز العوائق أمام إنجاح الجهوية المتقدمة.
تواجه الجهوية المتقدمة أيضًا عدة معوقات داخلية، مثل ضعف الديمقراطية التشاركية، ونقص آليات التمويل المحلي، وغياب الحوافز الاستثمارية الضرورية.
فرغم مرور عقد ونصف على إطلاق المشروع، لا تزال الجهات تعاني من قلة الاستقلال المالي، ما يقيد قدرتها على اتخاذ قرارات استراتيجية تتناسب مع خصوصياتها التنموية.
كما أن النظام الانتخابي للمجالس الجهوية يحتاج إلى إصلاحات جوهرية لتعزيز فعاليته وشرعية هذه المجالس، حيث فشل في تلبية تطلعات التنمية المحلية، مما أدى إلى عزوف شعبي متزايد عن المشاركة السياسية، وانعكس في موجات احتجاجية متكررة في مناطق مثل الريف، سيدي إفني، وجرادة، التي تطالب بتنمية متوازنة وإنصاف اجتماعي.
تُضيف الدراسة أن التضخم المؤسساتي، عبر تداخل مهام المجالس الجهوية مع العمالات والأقاليم، يُؤدي إلى ازدواجية في العمل وضعف في الكفاءة، مما يعيق تحقيق الأهداف التنموية. لذلك، هناك حاجة ماسة لإعادة هيكلة إدارية دقيقة تضمن وضوح الأدوار وتنسيقًا فعالًا بين مختلف الجهات الفاعلة.
لمواجهة هذه التحديات، تقترح الدراسة مراجعة شاملة للنصوص القانونية المتعلقة بالجهوية، من خلال صياغة مدونة موحدة تنهي التشتت التشريعي، وتحدد بوضوح اختصاصات المجالس الجهوية وصلاحياتها.
وتدعو كذلك إلى تقليص الرقابة المباشرة لوزارة الداخلية، مع إنشاء وزارة متخصصة في التنمية المحلية تركز على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، وتقليل الطابع الأمني للرقابة، بالإضافة إلى منح الجهات استقلالية مالية حقيقية تمكنها من اتخاذ قرارات استثمارية مناسبة.
وأخيرًا، تؤكد الدراسة على ضرورة مراجعة التقسيم الترابي بهدف الحد من التفاوتات الإقليمية، ومعالجة التهميش الذي يعاني منه بعض المناطق الغنية بالموارد الطبيعية والثقافية، مثل الريف، والتي تعد مركزًا للاحتجاجات الاجتماعية.
تخلص الدراسة إلى أن تعثر الجهوية المتقدمة ليس ناتجًا عن غياب الإرادة السياسية، بل بسبب تراكم أعطاب بنيوية وتباطؤ في الإصلاحات الإدارية، مع تفشي البيروقراطية.
ومع أن الملك محمد السادس أعرب عن عدم رضاه على نتائج هذا المسار، تبقى فرص إنجاح الجهوية المتقدمة قائمة، شرط أن تعترف الدولة بأوجه القصور وتشرع في إصلاحات جذرية تمنح الجهات استقلالية حقيقية، وتسهم في بناء تنمية محلية عادلة ومستدامة.