التوازن بين العمل والراحة: مفتاح السعادة والصحة عبر العصور

يشكّل الانتقال من صخب الحياة العملية إلى هدوء التقاعد تحوّلًا جذريًا في حياة الإنسان، لكن هل يحمل هذا التحول بين طياته فوائد صحية ونفسية؟
وهل الانشغال الدائم هو حقًا السبيل الوحيد لتحقيق السعادة، أم أن الراحة والاسترخاء ضرورة لا غنى عنها لتحقيق توازن صحي ومستدام؟
تكشف دراسات سلوك الحيوانات عن علاقة وثيقة بين أنماط نشاطها ونظامها الغذائي. فالمفترسات مثل الأسود، التي تعتمد على لحوم عالية الطاقة، تنعم بساعات نوم طويلة تصل إلى 16 ساعة يوميًا.
أما الفرائس، كالمواشي، التي تقتات على غذاء منخفض الطاقة، فإنها تقضي معظم وقتها في الرعي ولا تنام أكثر من 6 إلى 8 ساعات يوميًا.
أما الإنسان، هذا الكائن الفريد، فقد ظل طوال تاريخه يجمع بين الصيد وجمع الثمار، جامعًا بين صفات المفترس والـفريسة، ينام بقدر كافٍ لتجديد طاقته اليومية ومواجهة تحديات الغد.
و مع الثورة الصناعية، شهد الإنسان انفجارًا في ساعات العمل، بعدما مكّنته إضاءة المصابيح من مواصلة الجهد حتى الليل. إلا أن جذور هذا الانشغال تمتد أبعد من ذلك، إلى الثورة الزراعية.
تشير دراسات عن قبائل مثل الأجتا في الفلبين إلى أن التحول من نمط الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة المستقرة ضاعف من جهد الأفراد، وقلل من أوقات فراغهم، خصوصًا لدى الرجال، الذين تحملوا أعباء العمل المضني، بينما انشغلت النساء كذلك برعاية الأطفال.
وقد أثار هذا التحول نقاشًا عميقًا حول أثر الزراعة على جودة الحياة، فتعددت الآراء ما بين مَن رأى فيها خطوة تقدمية، ومن اعتبرها عبئًا أثقل كاهل الإنسان.
ذهب الفيلسوف أرسطو إلى أن السعادة لا تُختصر في اللذات الحسية أو جمع الثروات، بل تكمن في النشاط الذهني المتواصل، حيث قال: “السعادة هي نشاط الروح وفقًا للفضيلة”.
تدعم الدراسات الحديثة هذا الرأي، موضحةً أن النشاط البدني والذهني مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بحالة الإنسان النفسية. فالأشخاص النشطون غالبًا ما يتمتعون بمزاج أفضل، بينما ترتبط الكآبة والخمول ارتباطًا وثيقًا بالاكتئاب.
من هنا، فإن النشاط ليس مجرد ترف، بل ضرورة للوقاية من الاضطرابات النفسية والحفاظ على صحة الجسد والعقل.
و رغم أن الزراعة عززت النمو السكاني، إلا أن هذا الإنجاز جاء مصحوبًا بتدهور ملحوظ في صحة الأفراد، حيث ارتفعت معدلات الأمراض المزمنة، وتقلص متوسط العمر، وضعف التنوع الغذائي.
ومع تزايد أعداد البشر وتقلص الموارد، بات من المستحيل العودة إلى نمط الصيد وجمع الثمار، لكن ذلك لم يمنع محاولات تحسين شروط الحياة والعمل.
في العصر الصناعي، رغم قسوة ظروف العمل، أدت التحسينات في مجالات الصحة العامة، والمياه النظيفة، وحقوق العمال إلى تحسن صحة السكان بشكل عام. وقد كان تقليص ساعات العمل من أهم الإنجازات التي انعكست إيجابيًا على صحة الإنسان وطول عمره.
إن تاريخ الإنسان رحلة دؤوبة للبحث عن توازن بين العمل والراحة. وبينما لا يمكننا استرجاع بساطة الماضي، يمكننا بناء مستقبل أكثر إنسانية، يجمع بين نشاط منتج واسترخاء مريح.
السعادة الحقيقية ليست في الانشغال المستمر ولا في الكسل التام، بل في تحقيق الانسجام بين الإنتاج والاسترخاء، بما يضمن لنا حياة صحية ومتوازنة وأكثر سعادة.