التقاعد في زمن التغير الديموغرافي…لماذا أصبح عمر الستين مجرد رقم؟

في عالم يشهد تحولات ديموغرافية واقتصادية متسارعة، لم يعد التقاعد كما كان معروفًا سابقًا. فمع ارتفاع متوسط العمر المتوقع وتراجع معدلات الولادة، بدأ مفهوم سن التقاعد يتغير جذريًا، ليصبح هدفًا مرنًا يتغير بتغير الظروف.
يتجلى هذا التحول بشكل واضح في حالة الملياردير وارن بافت، الذي قرر الاستمرار في العمل حتى بلغ 95 عامًا، قبل أن يتنحى عن منصب الرئيس التنفيذي لشركة “بيركشاير هاثاواي” بنهاية العام، مع بقاءه كرئيس لمجلس الإدارة.
هذا الاستثناء يعكس فجوة كبيرة مع متوسط سن التقاعد في الولايات المتحدة، والذي لا يتجاوز 65 عامًا.
ويؤكد بافت، الملقب بـ”المستثمر الحكيم”، أن سن التقاعد التقليدي لا يعكس الواقع الحقيقي، وهو ينتقد مثلاً تحديد سن التقاعد عند 80 عامًا، كما هو الحال مع برنارد أرنو رئيس شركة “إل في إم إتش”، واصفًا هذا الرقم بأنه “منخفض جدًا”.
هذه الأفكار ليست جديدة، إذ تشبه مواقف شخصيات تاريخية مثل تشارلز إيفانز هيوز، الذي رأى قبل أكثر من قرن أن العمل المستمر لا يُرهق الإنسان، بل التوتر وسوء الإدارة هما السبب.
رغم ذلك، ثمة تيار اجتماعي يؤكد أهمية تحقيق توازن بين العمل والرفاهية، مشيرًا إلى أن العمل مدى الحياة ليس هو المؤشر الوحيد للنجاح أو جودة الحياة.
اليوم، تبنت العديد من الدول — سواء المتقدمة أو الناشئة — سياسات لتمديد فترة العمل، ردًا على تغيّرات كبيرة في تركيبة السكان وسوق العمل. فمنذ منتصف القرن الماضي، ارتفع متوسط العمر المتوقع من 46.5 إلى 66 عامًا، مع توقع بلوغه 76 عامًا بحلول 2050، وفق بيانات الأمم المتحدة.
في هذا الإطار، اتخذت عدة دول خطوات ملموسة لتعديل سن التقاعد:
-
فرنسا رفعت السن القانوني للتقاعد من 62 إلى 64 عامًا في 2023، وسط احتجاجات شعبية.
-
الصين أعلنت في 2024 رفع سن التقاعد للرجال إلى 63 عامًا وللنساء بين 55 و58 عامًا.
-
الدنمارك تخطط لرفع سن التقاعد تدريجيًا ليصل إلى 70 عامًا بحلول 2040.
كما تشير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن متوسط سن التقاعد في الاتحاد الأوروبي قد يصل إلى 67 عامًا بحلول 2060، مع وصوله في بعض الدول إلى 70 عامًا أو أكثر.
وفي باكستان، وصف وزير المالية السن التقليدي بأنه “مجرد رقم”، مشيرًا إلى أن الستين صارت تمثل الأربعين الجديد، ما يعكس الضغوط المتزايدة على نظم المعاشات التقاعدية.
هذه التحولات تمثل أكثر من مجرد تغيير في التشريعات، فهي تعيد تشكيل أسلوب حياة الإنسان، وسط انخفاض مستمر في أعداد المواليد وتغيرات اقتصادية واجتماعية معقدة.
لكن التحديات التي تواجه تمديد سنوات العمل كبيرة، فكيف يمكن لموظف في الخامسة والستين يعاني من أوجاع جسدية أن يواصل العمل حتى سن السبعين؟ هنا يبرز دور سياسات التقاعد التدريجي وفئات العمل المختلفة التي تراعي ظروف كل فئة.
ولتأمين بيئات عمل مناسبة لكبار السن، يجب إعادة تصميم أماكن العمل وتوفير أدوات وتقنيات مساعدة، مثل الروبوتات التعاونية وأنظمة السلامة المتطورة، كما هو الحال في الدنمارك والصين اللتين تستثمران بشكل كبير في هذا المجال.
لا يقتصر الأمر على بيئة العمل فقط، بل يمتد إلى تطوير التعليم المستمر وإعادة التأهيل المهني، لأن المهارات التي تعلمها الفرد في شبابه قد لا تناسب سوق العمل في مراحل حياته المتقدمة.
أما من الناحية الصحية، فتعد الرعاية الوقائية ضرورة ملحة، عبر الفحوصات المنتظمة، والمتابعة الطبية المستمرة، ودعم الصحة النفسية، مع الاستفادة من التقنيات الحديثة مثل الأجهزة القابلة للارتداء لرصد المؤشرات الصحية.
في النهاية، قد يبدو تمديد فترة العمل خيارًا ملهمًا لمن يمتلكون حرية القرار وموارد كافية، لكنه يتطلب إعادة بناء شاملة للأنظمة الاجتماعية والسياسية، لضمان أن يكون العمل ممتدًا مستدامًا وإنسانيًا للجميع، مع تحقيق توازن يحفظ كرامة العاملين وجودة حياتهم.