الاقتصادية

الاستثمار الصامت…فلسفة الملياردير الذي يربح من عوائد السندات دون امتلاكها

بينما يتسابق المستثمرون في ساعات الصباح الأولى لمراقبة حركة الأسهم والعملات، يبدأ بات نيل، الملياردير العصامي وصاحب إحدى أكبر شركات تطوير العقارات في فلوريدا، يومه بتأمل صامت في مؤشرات الاقتصاد الحقيقي: “ما اتجاه عوائد سندات الخزانة لأجل عشر سنوات هذا الصباح؟”

ما يثير الدهشة أن نيل لا يملك أي سهم في السوق، ولم يعد يعير البورصة أي اهتمام منذ نصف قرن، ومع ذلك يحرص على متابعة عوائد السندات لأنها تمثل في نظره المؤشر الأصدق على مزاج سوق العقارات الأميركي، خصوصاً ما يتعلق بالقدرة على تمويل المنازل.

نيل، الذي تُقدّر ثروته بنحو 1.2 مليار دولار، لم يراكم ثروته من خلال المضاربة أو شراء الأسهم، بل عبر استثمار واحد آمن وبسيط: الأراضي.

و منذ أن أسس شركته “نيل كوميونيتيز” في سبعينيات القرن الماضي، قام ببناء أكثر من 25 ألف منزل في ولاية فلوريدا، وكل ما تجنيه شركته يُعاد ضخه في شراء أراضٍ جديدة، في نموذج استثماري قائم على التكرار الذكي لا المغامرة.

رغم ثرائه، يعيش نيل حياة متواضعة، مكتفيًا براتب سنوي لا يتجاوز 150 ألف دولار. لا سيارات فارهة، لا يخوت، ولا بذخ. بالنسبة له، الاستقلال المالي لا يعني الترف، بل امتلاك القرار.

وإن احتاج إلى السيولة، يكتفي ببيع قطعة من أراضيه البالغ عددها أكثر من 26 ألف قطعة، دون اللجوء إلى البنوك أو التنازل عن أصوله الأساسية.

لم يبدأ نيل مسيرته فوق أرض ممهدة. في شبابه، جذبته وول ستريت بوعود الثراء السريع، فاستثمر في أسهم شركة لقروض المساكن المتنقلة. بعد صعود أولي، انهار السهم إثر تقرير أرباح سيئ.

وعوض أن يخرج بخسارة محدودة، استجاب لنصيحة وسيطه المالي بشراء المزيد لخفض متوسط التكلفة… لتكون النتيجة كارثية: خسر كل أمواله.

نيل يروي اليوم هذه القصة بسخرية لاذعة، مشيرًا إلى أن الوسيط الذي تسبب بخسارته يعمل الآن بائعًا للحوم. تلك الصفعة المالية في أوائل السبعينيات كانت كافية ليتخذ قرارًا مصيريًا: لن يستثمر مجددًا إلا في مجال يفهمه تمامًا، ويسيطر عليه بالكامل.

سر نيل الحقيقي لم يكن المال، بل الفهم العميق للسوق. برفقة أبنائه، يقوم بمسح يومي للأراضي، يراقب خرائط النمو السكاني، يتابع المزادات، بل حتى يطالع أخبار الوفيات بحثًا عن فرص شراء غير معلنة. هو لا يشتري أرضًا فقط، بل يسبق الزمن إليها.

من أبرز إنجازاته: شراء قطعة أرض ضخمة في أواخر الثمانينيات بسعر 10 سنتات للقدم المربع، في منطقة لم يتوقع أحد أن يمر بها طريق سريع مستقبلاً. وبعد سنوات، باع نفس الأرض بسعر 57 دولارًا للقدم.

وفي عام 2014، اشترى مع ابنه أرضًا مرهونة مقابل 6,000 دولار للفدان، وباع أجزاء منها لاحقًا بسعر بلغ 250 ألف دولار للفدان، مضاعفًا استثماره عشرات المرات.

نيل لا يتوقف عن التعلم، يقرأ كتب الاستثمار الكلاسيكية ويستلهم من عظماء مثل سيث كلارمان وبيتر لينش، لكنه يضيف لمسته الخاصة:
“الاستثمار ليس حظًا، بل معرفة. وكلما زادت معرفتك، زاد هامش أمانك.”

في زمن تغلب عليه المضاربات السريعة والعملات الرقمية، يقدّم بات نيل نموذجًا فريدًا في الثروة المستدامة. لم يُراهن على تقلبات الأسواق، بل آمن بقيمة الأرض، وعرف متى وأين يشتري، ومتى يبيع.

قصته تذكير صريح بأن الثروة لا تحتاج دائمًا إلى مخاطرة، بل إلى فهم عميق، وصبر طويل، وعين خبيرة تعرف كيف تميّز الذهب حين يكون ما يزال ترابًا.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى