الاقتصاديةالتكنولوجيا

الابتكار بين الدولة والسوق: قراءة في توازن القوة والتقدّم

منذ فجر التاريخ، كان الابتكار هو الشرارة التي تشعل نهضة الأمم وتدفعها نحو الازدهار. ومع ذلك، ظلّ سؤالٌ محيّر يتردد عبر العصور: ما الذي يصنع بيئةً تُثمر الأفكار العظيمة وتُحوّلها إلى ثورات تكنولوجية واقتصادية؟ هل هو التخطيط الصارم من قِبل الدولة؟ أم انفتاح السوق الذي يتيح للمبادرة الفردية أن تزدهر؟

في كتابه اللافت «كيف ينتهي التقدّم»، يتناول الاقتصادي والمؤرخ كارل بنديكت فري هذه الإشكالية من منظور تاريخي عميق، محللًا كيف ساهمت القوى الريادية والسياسات والمؤسسات في رسم مسار الابتكار عبر القرون.

ومن خلال تتبع صعود وسقوط القوى الصناعية، يقدم فري رؤية نقدية لتوازن هشّ بين السلطة المركزية والحرية الاقتصادية، وهي معادلة ما تزال ترسم ملامح التقدّم في عصر الذكاء الاصطناعي والطاقة الخضراء.

يعيد فري إلى الواجهة النقاش الكلاسيكي حول من يقود عجلة التقدّم: الدولة القوية التي تنسّق وتخطّط، أم الأسواق الحرة التي تشجع التجريب والمنافسة؟

إلا أن المؤلف يوسّع الإطار، مشيرًا إلى أن مستوى اللامركزية الاقتصادية يلعب دورًا حاسمًا في تحديد مسار الابتكار ذاته.

WDI - States and Markets

فالنظم البيروقراطية المركزية، بحسب فري، تتفوق في استغلال التقنيات القائمة وتسريع اللحاق بالركب، بينما الأنظمة اللامركزية تُبدع في استكشاف مسارات جديدة وتوليد ابتكارات جذرية.

ويضرب أمثلة من التاريخ: فالثورة الصناعية البريطانية وازدهار وادي السيليكون الأمريكي نمتا من روح المبادرة والانفتاح، بينما برزت بروسيا في القرن التاسع عشر واليابان بعد الحرب العالمية الثانية بفضل إدارات حكومية منضبطة قادرة على توجيه وتسريع عملية التصنيع.

ومع ذلك، لم تضمن أيٌّ من التجربتين استمرار الابتكار إلى ما لا نهاية.

يُظهر فري أن كلا النموذجين يحمل نقاط ضعف قاتلة. فالسوق الحرة قد تتحول بمرور الوقت إلى منظومة احتكارية تُغلق الأبواب أمام المنافسين الجدد، وهو ما حدث لبريطانيا حين تراجعت مكانتها الصناعية. وفي المقابل، قد تُصبح الدولة المتحكمة عبئًا على الإبداع حين تغرق في البيروقراطية وتُقيّد حرية التجريب.

وتبرز هنا التجربة الصينية مثالًا تاريخيًا صارخًا. ففي عهد سلالة سونغ (القرنان العاشر والثاني عشر)، كانت الصين منارةً للابتكار في بناء السفن والحديد والطباعة، لكن مع توسع الجهاز البيروقراطي في العصور اللاحقة، تراجع الانفتاح والتنوع الفكري، فتوقفت عجلة الابتكار رغم ضخامة الإمبراطورية.

يُفنّد فري أيضًا الفكرة الشائعة بأن الحروب الكبرى كانت دائمًا محفّزًا للابتكار. فبينما أنتجت الحرب العالمية الثانية طفرة تكنولوجية هائلة، فإن القطاع الخاص كان المحرّك الفعلي للتقدّم، في حين أدت التعبئة الحكومية الضخمة إلى قدر كبير من الهدر وعدم الكفاءة.

خلاصة أطروحة فري أن الابتكار لا يمكن إخضاعه لقالب واحد. فالتوازن بين مرونة المؤسسات ودور الدولة وحيوية الأفراد هو العامل الحاسم في أي تجربة ناجحة.

ويحذّر من أن الاقتصادات المتقدمة اليوم تشهد تباطؤًا في ديناميكية الأعمال على الرغم من تبنّيها سياسات السوق الحر، بينما تعود الحمائية والتدخل الصناعي إلى الواجهة، خاصة في الولايات المتحدة، التي اتجهت في عهد دونالد ترامب إلى فرض رسوم جمركية واستثمارات حكومية مباشرة في شركات تكنولوجية مثل إنتل.

يخلص فري إلى أن الغرب، في سعيه لمنافسة الصين، قد يقع في فخّ النموذج الذي يحاول مواجهته — أي الاعتماد المفرط على الدولة. صحيح أن بكين أثبتت نجاح نموذجها التخطيطي في العقود الأخيرة، لكن استمرار هذا المسار دون انفتاح كافٍ على المبادرة الفردية يحمل مخاطر تباطؤ الابتكار.

ومن هنا، يشدّد المؤلف على أن التقدّم الحقيقي لا يتحقق إلا بالتوازن بين النظام والحرية، بين التوجيه والاكتشاف. فالابتكار، كما يخلص فري، ليس نتاج الأوامر ولا الصدفة، بل ثمرة تفاعل دائم بين المؤسسات والأسواق والأفراد — تفاعل إن اختلّ، تحوّل الحلم بالتقدّم إلى دورة جديدة من الركود.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى