إعطاء الأولوية للوطن.. لماذا يواجه حلم إعادة التصنيع في أمريكا صعوبات؟

منذ توليه منصبه، كان “دونالد ترامب” قد تعهد بإعادة المصانع والوظائف إلى الولايات المتحدة، مجددًا شعار “إعادة عظمة بلادنا” في قلب استراتيجيته الاقتصادية.
ومنذ فترته الرئاسية الأولى، شن حربًا تجارية على الصين، متبنيًا سياسة الرسوم الجمركية وإعادة التفاوض على اتفاقات التجارة بهدف حماية القاعدة الصناعية الأمريكية.
ولكن، في ظل تراجع قطاع التصنيع وظهور الصين كـ “مصنع العالم”، يظل السؤال: هل يكفي فرض التعريفات لإعادة ما فقد على مر العقود؟ أم أن ترامب يحاول ببساطة إرجاع عقارب الزمن إلى الوراء بشعارات أقوى من الواقع؟
شهد قطاع التصنيع الأمريكي تراجعًا مستمرًا في وظائفه وهيمنته العالمية، رغم زيادة نصيب العامل من الناتج.
في السنوات الأخيرة، كانت محاولات صناع القرار الأمريكي في التوجه نحو استعادة هذه الصناعات، وتحديدًا في ظل انخفاض الوظائف إلى 12.9 مليون وظيفة مقارنة بالذروة التي بلغت 19.4 مليون وظيفة في أواخر القرن العشرين.
تسببت سياسة نقل الصناعات إلى الخارج، وخاصة بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، في تآكل القاعدة الصناعية الأمريكية، وهو ما أُطلق عليه “صدمة الصين”.
وبينما ظل الناتج الصناعي الأمريكي مرتفعًا، إلا أن قدرة الولايات المتحدة على المنافسة في العديد من القطاعات تراجعت بشكل ملحوظ.
كان قطاع التصنيع الأمريكي يعاني من ضعف شديد في سلاسل التوريد الحيوية. على سبيل المثال، لا تنتج الولايات المتحدة حاليًا سوى 12% من أشباه الموصلات في العالم، بينما كانت تسيطر على 37% في التسعينيات.
هذا الانخفاض كان أحد العوامل التي كشفتها جائحة “كوفيد-19″، التي أبرزت مدى الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية.
لكن ترامب حاول معالجة هذا الواقع عبر فرض تعريفات جمركية على الواردات الصينية في 2018. وكانت النية من وراء هذه الخطوة تشجيع الشركات على العودة إلى الإنتاج المحلي.
في 2019، ارتفعت وظائف التصنيع الأمريكية إلى 12.9 مليون، وهو ارتفاع طفيف مقارنة بعام 2016، حيث كانت 12.4 مليون.
رغم بعض النجاحات الظاهرة خلال ولاية ترامب الأولى، فقد أصابت سياسات الرسوم الجمركية الجمود في بعض الأماكن.
فبينما استهدفت الرسوم خفض العجز التجاري، إلا أن الشركات لجأت إلى نقل الإنتاج إلى دول أخرى ذات تكلفة أقل بدلاً من العودة إلى أمريكا. وهذا جعل العجز التجاري يتسع بشكل أكبر في 2019.
لم تكن سياسات ترامب هي الوحيدة التي تناولت مسألة التصنيع، حيث أيدت إدارة “جو بايدن” معظم هذه السياسات، مع تعزيزها بسياسات إضافية مثل قانون الرقائق (CHIPS Act) الذي دعم صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
ومنذ عام 2022، ارتفعت جهود إعادة التصنيع إلى الداخل، حيث سجلت الشركات أكثر من 364,000 وظيفة في قطاع التصنيع، ولكن العجز التجاري بلغ أعلى مستوياته في 2022.
تظل مشكلة نقص العمالة المهرة في قطاع التصنيع عائقًا كبيرًا. مع تقدم السن للعمال الحرفيين، يواجه القطاع تحديات كبيرة في جذب الشباب إلى المهن الصناعية.
و تشير التقديرات إلى أن قطاع التصنيع الأمريكي سيواجه نقصًا في 2.1 مليون وظيفة بحلول عام 2030، بسبب التقاعد وتناقص المهارات.
إضافة إلى ذلك، لا يعمل قطاع التصنيع في عزلة، بل يعتمد على شبكة موردين متكاملة. لذلك، حتى إذا عادت الشركات الأمريكية إلى الداخل، فسيظل عليها استيراد العديد من الأجزاء الوسيطة حتى يتم بناء شبكة مورّدين محلية. كما أن تكاليف الطاقة والمواد الخام في بعض الولايات تجعل العودة للإنتاج المحلي تحديًا مكلفًا.
في 2022، أعلنت “إنتل” عن خطط لبناء مصنعين في أوهايو باستثمار قيمته 20 مليار دولار. ورغم الدعم الحكومي، تعرضت الشركة لعدة تحديات، بما في ذلك تقلبات السوق في صناعة الرقائق. كما أجلت الشركة مشروعها إلى عام 2030، بدلًا من 2025.
وفي ذات السياق، أعلنت شركة “تي إس إم سي” التايوانية عن بناء مصنع لأشباه الموصلات في أريزونا، بدعم من قانون الرقائق. ولكنها واجهت تأخيرات بسبب نقص العمالة والتحديات المتعلقة بالبناء.
رغم الاستثمارات الكبيرة والجهود المبذولة لإعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة، لا يزال القطاع الصناعي الأمريكي يعاني من فجوات عميقة.
وبينما يواصل ترامب وحلفاؤه الترويج لاستراتيجيات إعادة التصنيع، فإن الواقع الاقتصادي يكشف عن تحديات كبيرة. التصنيع، كما يبدو، لا يعود بمجرد التغريدات أو فرض التعريفات الجمركية.