أوروبا ترسم ملامح سوق الهيدروجين العالمي وسط خلافات تنظيمية وضبابية استثمارية

شهد أسبوع الهيدروجين الأوروبي في بروكسل هذا الشهر عرضاً واسعاً لملامح تطور صناعة الهيدروجين العالمي، لكن الحدث عكس أيضاً حالة من الإحباط المتزايد في أوساط المستثمرين بسبب التعقيدات التنظيمية الأوروبية التي تؤخر تنفيذ المشاريع وتضع قيوداً مشددة على المنتجين والمصدرين.
ورغم موجة إلغاء عدد من المشاريع مؤخراً، فإن المشاركين في المؤتمر أكدوا أن القطاع لا يزال يحتفظ بزخمه، وأن “اللاعبين الجادين فقط هم من بقوا في الساحة”، وفق تعبير يورغو تشاتزيماركيس، الرئيس التنفيذي لمجموعة Hydrogen Europe، الذي دعا إلى مزيد من الواقعية في السياسات عبر تفعيل عقود شراء طويلة الأجل للصناعات الكبرى وتخفيف الأعباء الإدارية.
وأضاف تشاتزيماركيس أن الصناعة تقف اليوم عند مفترق طرق حاسم، بين الطموح الأوروبي لتصدّر مشهد الهيدروجين النظيف عالميًا، والتحديات التي تفرضها اللوائح المعقدة على الأرض.
عرض المؤتمر مجموعة من المشاريع الكبرى التي تؤكد استمرار النمو في هذا القطاع، أبرزها اتفاقية بين RWE الألمانية وTotalEnergies الفرنسية لنقل 30 ألف طن من الهيدروجين الأخضر سنوياً من منشأة تحليل كهربائي بقدرة 300 ميغاواط في لينغن إلى مصفاة توتال في ساكسونيا أنهالت عبر أنبوب يبلغ طوله 600 كيلومتر بحلول عام 2030.
كما استعرض ممثلو ميناء روتردام تقدم مشروع شل (Shell) الذي يشمل محطة تحليل كهربائي بقدرة 200 ميغاواط لإنتاج 22 ألف طن من الهيدروجين الأخضر سنوياً، سيتم نقلها إلى مجمع شل للطاقة عبر خط أنابيب بطول 30 كيلومتراً.
وفي تقرير صادر عن Hydrogen Council بالشراكة مع McKinsey & Company، تبيّن أن الاستثمارات العالمية الملتزم بها في الهيدروجين منخفض الكربون تجاوزت 110 مليارات دولار، بزيادة عشرة أضعاف خلال خمس سنوات، مع نحو 500 مشروع قيد التنفيذ أو التشغيل.
وتتصدر الصين الاستثمارات بـ33 مليار دولار، تليها أميركا الشمالية بـ23 ملياراً، ثم أوروبا بـ19 ملياراً.
وقالت إيفانا ييميلكوفا، الرئيسة التنفيذية للمجلس، إن الصناعة “دخلت مرحلة بناء حقيقية”، مشيرة إلى أن 97% من الرؤساء التنفيذيين يعتبرون الهيدروجين عنصراً محورياً في إزالة الكربون من الصناعات الثقيلة.
أثار ممثلو دول مثل عُمان والهند تساؤلات حول صعوبة الالتزام باللوائح الأوروبية الخاصة بالهيدروجين الأخضر، مؤكدين أن التعقيد الحالي يجعل الامتثال “شبه مستحيل” بالنسبة للدول المصدرة.
ويركز الخلاف على قواعد المفوضية الأوروبية الخاصة بتصنيف “الوقود المتجدد من أصل غير بيولوجي (RFNBO)”، والتي تفرض ثلاث متطلبات أساسية:
الإضافية: أن تكون الكهرباء المتجددة جديدة وليست من منشآت قائمة.
التزامن الزمني: أن يتم إنتاج الكهرباء والهيدروجين في غضون ساعة واحدة بحلول 2028.
الارتباط الجغرافي: أن يتم الإنتاج في نفس المنطقة.
وترى الشركات أن هذه القواعد تزيد من تكلفة الإنتاج وتعرقل الاستثمارات، مطالبةً بتأجيل تطبيقها إلى ما بعد عام 2030.
وقال فيرنر بونيكوار، الرئيس التنفيذي لشركة thyssenkrupp nucera، إن “الصناعة تحتاج إلى بيئة تنظيمية تسمح بالعمل لا بالانتظار.”
تسعى المفوضية الأوروبية من خلال توجيهات RED III إلى فرض حصص إلزامية للهيدروجين المتجدد تصل إلى 42% في الصناعة بحلول 2030، و60% بحلول 2035، مع أهداف خاصة بقطاعات النقل والطيران.
وتشمل هذه الخطط إنشاء خمسة ممرات رئيسية للهيدروجين تمتد عبر القارة، باستخدام مزيج من الأنابيب الجديدة وإعادة توظيف خطوط الغاز الحالية، لتكوين سوق موحدة للهيدروجين في أوروبا، تتوسطها ألمانيا كمحور رئيسي للتوزيع.
قدّم مارتن تنغلر، رئيس أبحاث الهيدروجين في BloombergNEF، تحليلاً أشار فيه إلى أن حجم العرض العالمي من الهيدروجين سيصل إلى 5.5 ملايين طن فقط بحلول 2030، أي 20% من الأهداف الوطنية المعلنة.
وحدد أربعة عناصر رئيسية يجب أن تتكامل لدفع القطاع إلى الأمام:
التمويل المستدام وتوجيه الإعانات نحو تحفيز الطلب.
حوافز الشراء المسبق مثل عقود الفروقات (CfD).
تسعير الكربون لجعل الهيدروجين الأخضر قادراً على منافسة الوقود التقليدي.
البنية التحتية المتوسطة كالموانئ والأنابيب وخزانات النقل.
وأشار تنغلر إلى أن اتفاق RWE–TotalEnergies يجسّد هذا التكامل، بفضل الدعم الحكومي الألماني البالغ 690 مليون يورو، الذي شمل تمويل خطوط الأنابيب ورفع أسعار الكربون، ما جعل الصفقة مجدية اقتصادياً رغم التكلفة المرتفعة للهيدروجين النظيف.
خلصت المناقشات إلى أن المرونة الطاقية والأمن الاقتصادي قد تصبحان دوافع أساسية لنمو الطلب على الهيدروجين داخل أوروبا، في ظل ارتفاع استهلاك الطاقة من مراكز البيانات وتزايد الاضطرابات الجيوسياسية.
ويُنظر إلى الهيدروجين منخفض الكربون بوصفه وقوداً استراتيجياً لضمان استقلال أوروبا الطاقي، ما يدفع الحكومات إلى تحمل تكاليف البنية التحتية ودعم هذا القطاع الواعد، تمهيداً لتحويله إلى سلعة تنافسية قابلة للتداول العالمي في العقود المقبلة.




