الاقتصادية

أمريكا تحت المجهر…عجز الحساب الجاري يعود بمخاوف أزمة مالية جديدة

في الوقت الذي تبدو فيه المؤشرات الاقتصادية الأمريكية قوية على السطح، تتشكل في العمق ملامح أزمة صامتة تهدد الاستقرار المالي.

خلف النمو المتسارع للأسواق، يقبع خلل هيكلي يعيد للأذهان سيناريوهات مأساوية عرفها العالم قبل أكثر من 15 عامًا. فالعجز المتفاقم في الحساب الجاري الأمريكي خلال الربع الأول من عام 2024 لم يكن مجرد رقم جديد في سلسلة بيانات اقتصادية، بل ناقوس خطر يقرع أبواب النظام النقدي العالمي.

بلغ العجز في الحساب الجاري – وهو المؤشر الذي يوازن بين صادرات وواردات السلع والخدمات وتدفقات الدخل – مستوى غير مسبوق عند 450.2 مليار دولار، بارتفاع سنوي بلغ 44.3%.

هذه الفجوة تمثل 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى منذ عام 2006، ما يعيد إلى الأذهان فترة ما قبل الأزمة المالية العالمية.

ورغم أن الخطاب السياسي يركز غالبًا على العجز التجاري، فإن الاقتصاديين والمستثمرين يلتفتون إلى الجانب الآخر من المعادلة: فائض الحساب الرأسمالي، الذي يعكس التدفقات الاستثمارية الأجنبية إلى الولايات المتحدة.

بمعنى أوضح، الأموال التي تغادر البلاد لشراء السلع تعود على شكل استثمارات ضخمة في الأصول الأمريكية.

شهد الربع الأول من العام الجاري تدفقات مالية قياسية نحو السوق الأمريكي، مما أدى إلى ارتفاع التزامات الولايات المتحدة تجاه الأجانب إلى 843.7 مليار دولار، خصوصًا في السندات طويلة الأجل والأسهم.

في المقابل، لم تتجاوز الزيادة في الأصول الأمريكية بالخارج 524.9 مليار دولار، ما يشير إلى خلل مزمن في الميزان الاستثماري.

صافي مركز الاستثمار الدولي – أي الفارق بين الأصول التي يملكها الأمريكيون في الخارج والتزاماتهم تجاه الأجانب – سجّل عجزًا قياسيًا بلغ 26.23 تريليون دولار، ما يعادل نحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ19.85 تريليون دولار فقط في 2023، ما يعكس وتيرة متسارعة في تدهور التوازن المالي.

يحذر جورج سارافيلوس، كبير محللي العملات في “دويتشه بنك”، من أن هذا الاعتماد المفرط على التمويل الأجنبي يضعف قدرة صانعي السياسات الأمريكيين على المناورة، بل يجعل الاقتصاد الأمريكي رهينة للضغوط العالمية، في لحظة تتزايد فيها الهشاشة الجيوسياسية والمالية.

التاريخ المالي القريب لا يغفر. فقد سبق أن مهدت التدفقات الأجنبية الضخمة الطريق لانفجار فقاعة الرهن العقاري، التي انطلقت شرارتها في 2007 وأدت إلى انهيار المنظومة المالية في 2008. واليوم، مع اتساع العجز وتضخم الأصول، يحذر كثيرون من أن التاريخ قد يعيد نفسه، ولكن بأدوات وأسماء جديدة.

يبقى السؤال مفتوحًا: هل السبب في هذا الاختلال هو قوة الدولار التي تضعف الصادرات، أم أن جذور الأزمة تعود إلى الطلب العالمي على الأصول الأمريكية كملاذ آمن، ما يؤدي إلى تدفقات رأسمالية تعزز من فقاعة الأصول؟ في كلتا الحالتين، فإن استمرار هذا النموذج قد يحمل في طياته بذور أزمة جديدة، محلية وعالمية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى