هبوط النفط وصعود الأسواق..مفارقة الأسعار والاقتصاد العالمي

في كل مرة يشهد فيها سوق النفط انخفاضًا حادًا، يسارع المستثمرون إلى توقع موجة من الخسائر المالية، حيث ربط التاريخ بين انخفاض “الذهب الأسود” وتراجع النشاط الاقتصادي أو ضعف الطلب العالمي، مما يولد مخاوف واسعة ويبعث إشارات سلبية للأسواق.
ومع ذلك، غالبًا ما تكون الصورة المعقدة مختلفة تمامًا. ففي كثير من الحالات، بينما يتوقع الجميع تراجعًا واسعًا، تُسجَّل أسواق الأسهم أداءً إيجابيًا، ما يعكس أن انخفاض النفط لا يعني بالضرورة ضربة للاقتصاد أو للأرباح.
منذ منتصف القرن الماضي، أصبح النفط بمثابة “مؤشر نبض الاقتصاد العالمي”، فالارتفاع يعكس نشاطًا اقتصاديًا قويًا، في حين أن الهبوط غالبًا ما يرتبط بمخاوف الركود.
و يشير الخبير الاقتصادي كينيث روغوف في كتابه This Time is Different إلى أن صدمات أسعار الطاقة تؤثر بشكل مباشر على سياسات التشديد أو التيسير النقدي.
فالنفط المرتفع غالبًا ما يحفز البنوك المركزية على رفع الفائدة، مما يبطئ الأسواق، بينما انخفاضه يوفر بيئة أكثر دعمًا للأصول عالية المخاطر.
من جهته، يرى الاقتصادي جوزيف ستيغليتز أن انخفاض أسعار النفط يشبه “خفض ضريبي غير معلن”، إذ يمنح المستهلكين والشركات موارد إضافية يمكن إعادة توجيهها نحو الاستهلاك والخدمات، ما يعزز النمو الاقتصادي.
وقد أشار صندوق النقد الدولي إلى أن انخفاض النفط قد يرفع النمو العالمي بنحو 0.3% في ظل ظروف معينة خلال عام واحد.
لا يستفيد الجميع من انخفاض أسعار النفط بنفس الدرجة. فبينما تتأثر شركات الطاقة والبتروكيماويات بتراجع الإيرادات، تستفيد قطاعات الطيران والنقل والصناعة التحويلية مباشرة.
على سبيل المثال، يمثل الوقود نحو 30% من تكاليف شركات الطيران، لذا فإن انخفاض أسعاره يزيد من أرباحها بشكل كبير.
ووفق الاتحاد الدولي للنقل الجوي، يُتوقع أن تحقق شركات الطيران العالمية صافي أرباح يصل إلى 36.6 مليار دولار في 2025 نتيجة انخفاض تكاليف الوقود.
كما تشير الدراسات إلى أن الشركات الصناعية غير النفطية قد تزيد أرباحها بنسبة 1-5% حسب القطاع وقدرتها على تمرير التكاليف.
ليس كل انخفاض في أسعار النفط دليلًا على تهديد للأسواق. فسبب التراجع يحدد رد فعل المستثمرين. إذا كان الهبوط نتيجة ضعف الطلب العالمي، كما حدث في أزمة 2008 أو جائحة كوفيد-19، غالبًا ما تتراجع الأسواق بالتوازي مع النفط.
أما إذا كان بسبب زيادة العرض أو تحسين الكفاءة الإنتاجية، مثل طفرة النفط الصخري الأميركي بين 2010 و2014، فإن الأسواق غالبًا ما تستقبل هذا الانخفاض بإيجابية.
أكبر خمس دول مصدّرة للنفط من بين الدول الأعضاء في أوبك خلال عامي 2023 و2024 (وفقًا لبيانات موقع أوبك)
الترتيب |
الدولة |
2023 (مليون برميل يوميًا) |
2024 (مليون برميل يوميًا) |
1 |
السعودية |
6.66 |
6.05 |
2 |
العراق |
3.47 |
3.36 |
3 |
الإمارات العربية المتحدة |
2.65 |
2.72 |
4 |
إيران |
1.32 |
1.57 |
5 |
نيجيريا |
1.48 |
1.52 |
خلال طفرة النفط الصخري، ارتفع الإنتاج الأميركي بنحو 4 ملايين برميل يوميًا، ما أدى إلى تخمة في المعروض وتراجع الأسعار من أكثر من 100 دولار للبرميل منتصف 2014 إلى مستويات أقل بحلول نهاية العام، بينما سجل مؤشر S&P 500 ارتفاعًا بأكثر من 60% بين 2010 و2014، مدعومًا بانخفاض تكاليف الطاقة الذي عزز هوامش أرباح الشركات الصناعية والاستهلاكية.
هذا التباين يوضح كيف يمكن لعوامل العرض أن تحوّل إشارة الركود التقليدية إلى محفز للنمو. المستثمر الذكي لا يكتفي برصد سعر البرميل، بل يسأل دائمًا: ما سبب هذا الانخفاض؟ إذا كان بسبب زيادة العرض، قد تكون النتيجة إيجابية للأسواق، أما إذا كان ناجمًا عن ضعف النمو، فالضرر يشمل الجميع.
هبوط أسعار النفط يقلل التضخم، لأن الطاقة تدخل مباشرة في النقل والإنتاج والاستهلاك، ما يمنح البنوك المركزية مساحة أكبر لتخفيف التشدد النقدي أو خفض الفائدة إذا لزم الأمر، ويزيد من القيمة الحالية لأرباح الشركات، داعمًا بذلك أسواق الأسهم.
وتشير بيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية إلى أن متوسط خام برنت قد يشهد انخفاضًا ملحوظًا في 2026، ما يخفف الضغوط التضخمية.
كما تتوقع أوبك نمو الطلب العالمي على النفط بنحو 1.4 مليون برميل يوميًا، مقابل زيادة المعروض الخارجي خارج أوبك+ بحوالي 1.1 مليون برميل، ما قد يفرض ضغوطًا هبوطية على الأسعار.
وفي المقابل، أظهرت دراسات الاحتياطي الفيدرالي أن صدمات ارتفاع أسعار النفط تزيد التضخم الربعي بنحو 0.5 نقطة مئوية في الاقتصادات المتقدمة، ما يوضح أن انخفاض الأسعار يخفف هذه الضغوط على الأسواق المالية.
في عالم تتقاطع فيه الجغرافيا السياسية مع أسواق الطاقة، يصبح فهم سبب تحركات النفط مفتاحًا لفهم الأسواق المالية. فالنفط ليس مجرد سلعة، بل مؤشر معقد يعكس التوازنات الاقتصادية، ويؤثر على السياسات النقدية، وتكاليف الإنتاج، وثقة المستثمرين، وبالتالي على مسار النمو العالمي.