مفارقة التقدم: كيف تصبح منتجاتنا أفضل وأرخص رغم سعي الشركات للربح؟

في عالم يزداد فيه التقدم التكنولوجي بسرعة، يبدو أمر انخفاض أسعار الهواتف والتلفزيونات الحديثة وزيادة جودتها أمراً طبيعياً لا يحتاج إلى تفسير.
لكن السؤال الحقيقي الذي يختبئ خلف هذا البديهي هو: لماذا تصبح الأشياء أرخص مع مرور الوقت، وكيف يتحقق هذا الانخفاض رغم أن الشركات تسعى، نظرياً، لتحقيق أرباح أعلى؟
هذا هو السؤال الذي يضعه الكاتب والمفكر الصناعي براين بوتر في صميم كتابه الجديد “أصول الكفاءة”، حيث يحوّل فكرة بسيطة إلى تحليل عميق حول ديناميكيات الإنتاج والتحسين المستمر.
بوتر يسمي هذه الظاهرة بـ “الكفاءة التي تجعل الأشياء أرخص”، مصطلح يبدو اعتيادياً لكنه يحمل تفسيرات عملية وعميقة.
ما يميز كتاب بوتر هو زاوية النظر غير التقليدية. فهو لا ينظر إلى الكفاءة كاقتصادي يحلل أرقاماً ونماذج مجردة، بل كمهندس يفكك خطوات الإنتاج مرحلة تلو الأخرى، موضحاً كيف تؤدي كل خطوة محسوبة إلى تحسين الأداء وتخفيض التكاليف.
النتيجة هي أدوات تحليلية واضحة لفهم أحد أهم التحولات الاقتصادية في القرن الماضي، عبر رؤية عملية للعمليات الإنتاجية بدلاً من الافتراضات النظرية الجافة.

على الرغم من أن الكفاءة مفهوم أساسي في الاقتصاد الجزئي، إلا أن الاقتصاديين غالباً ما يتجاهلون السؤال العملي: كيف تتحقق الكفاءة فعلياً؟ الإجابة الأكاديمية التقليدية عادة ما تكتفي بـ “المنافسة تفعل ذلك” وتغلق الملف.
بوتر يطرح سؤالين أساسيين:
كيف يعرف المنتجون تكاليف إنتاجهم؟
الواقع يختلف عن النظرية؛ المنتجون يكتشفون طريقهم خطوة بخطوة عبر التجربة والتحسينات المتواصلة، وليس عبر منحنيات جاهزة.لماذا تنخفض التكاليف مع الوقت رغم سعي الشركات للربح؟
التاريخ مليء بأمثلة لانخفاض التكاليف والأسعار حتى في السلع الأساسية، مع تحسين الجودة. الكفاءة ليست سحراً، بل نتيجة تراكم التحسينات الصغيرة والمتواصلة.
بوتر يوضح أن تحسين الإنتاج – أي إنتاج المزيد بموارد أقل – هو المحرك الرئيسي لانخفاض التكاليف. لكنه يتجاوز التعابير الفضفاضة مثل “التكنولوجيا” أو “رأس المال البشري”، ويحدد خمس آليات ملموسة:
تعديل أساليب الإنتاج
استغلال وفورات الحجم
خفض تكلفة المدخلات
إزالة الخطوات غير الضرورية
تحسين التحكم في العمليات والدقة
نجاح هذه الرافعات يختلف بين القطاعات: بعض الصناعات مثل الإلكترونيات والأدوية شهدت انخفاضاً ملحوظاً في التكاليف، بينما واجهت قطاعات مثل البناء والتعليم والرعاية الصحية تحديات مستمرة.
يبدأ بوتر كتابه بسرد قصة البنسلين ليظهر أن المعجزة الحقيقية لم تكن في الاكتشاف العلمي، بل في إنتاجه بكميات ضخمة وتكلفة منخفضة.
من خلال تحسين عمليات التخمير وضبط الجودة، أصبح الدواء متاحاً لإنقاذ ملايين الأرواح وتقليل وفيات العدوى بشكل كبير.
يشدد بوتر على أن انخفاض التكاليف ليس حتمياً. غالباً ما نرى فقط المنتجات الناجحة ونتجاهل تلك التي فشلت. الكفاءة هي عملية تراكمية مستمرة من تعديلات صغيرة، وليست قفزة مفاجئة أو اختراعاً لحظياً.
الكتاب يقدم أمثلة شهيرة مثل تحول صناعة الصلب عبر عملية بيسمر، ويبين تأثيرها على الاقتصاد ككل. لكنه يحذر من الاعتماد المفرط على وفورات الحجم في المنتجات المعقدة، مثل تجربة فورد مع موديل T، حيث تسبب الانتقال إلى موديل A في توقف الإنتاج لعدة أشهر، بتكلفة كبيرة.
في الختام، يوضح بوتر لماذا لم تنخفض تكاليف بعض القطاعات مثل البناء والتعليم والرعاية الصحية، بل ارتفعت في بعض الأحيان. تجربته مع شركة “كاتيرا” للبناء المعياري أظهرت أن نقل تقنيات الإنتاج التقليدية إلى المصانع ليس بالأمر البسيط، بل عملية تتطلب فهماً عميقاً لطبيعة الإنتاج.
براين بوتر يقدم رؤية دقيقة للكفاءة، لا كشعار أو وصفة جاهزة، بل كمجموعة آليات عملية مدعومة بأمثلة ودراسات حالة. قد لا يتفق الجميع مع تفاؤله في زمن التضخم، لكنه يوفر إطاراً تحليلياً استثنائياً لفهم انخفاض التكاليف والتحولات الاقتصادية طويلة الأمد.




