سوق الأسهم: محرك النمو الاقتصادي وسيف ذو حدين

لطالما مثلت أسواق الأسهم ركيزة أساسية للاقتصادات الحديثة، نشأت بهدف تجميع رؤوس الأموال الضخمة اللازمة لإطلاق المشاريع الاقتصادية الكبرى، وتمكين صغار المستثمرين من المشاركة في عجلة النمو، مع ضمان الشفافية في تداول الحصص.
ومع تطور هذه الأسواق، لم تقتصر فوائدها على ذلك فحسب، بل أسهمت في ظهور إدارات شركات أكثر استقلالية واحترافية، تتمتع بالقدرة على تحمل الخسائر لفترات طويلة لدعم البحث والتطوير، أو حتى السعي نحو تحقيق مكانة احتكارية مستقبلية.
لكن هذا التطور لم يأتِ بلا ثمن، فقد صاحب النمو تعقيدات ومخاطر جديدة. فبينما يمكن لأسواق المال أن تعزز الاقتصاد بشكل كبير، إلا أنها قد تتحول إلى مصدر للاضطراب عندما تتسع الفجوة بين القيمة السوقية للشركات وأساسياتها الاقتصادية الحقيقية، أو عندما تسيطر المضاربات غير الواعية التي تؤثر سلبًا على مسار السوق.
فعلى سبيل المثال، عندما يشهد السوق صعودًا حادًا، كما حدث في عام 2021 بارتفاع مؤشر “ستاندرد أند بورز 500” بنسبة 26.9%، يزداد شعور المستثمرين والمستهلكين بالثقة، ما يدفعهم للإنفاق.
وقد أسهم ذلك آنذاك في ارتفاع الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 7.9%، وهو أعلى معدل منذ خمسينيات القرن الماضي، مما دعم الاقتصاد بشكل كبير في أعقاب أزمة “كوفيد-19”.
وفي جانب تمويل الشركات، يتيح انتعاش سوق الأسهم للشركات فرصًا ذهبية لتعزيز رؤوس أموالها. وقد استفادت من ذلك شركات كبرى مثل “تسلا” التي جمعت ما بين 2 و5 مليارات دولار من خلال طروحات متعددة خلال الفترة 2015–2020. هذا التمويل أتاح لها التوسع في مصانعها وأبحاثها، بما في ذلك تأسيس مصنعها في الصين، وفق ما صرح به محللون اقتصاديون. كذلك، مولت “موديرنا” أبحاث لقاح “كوفيد-19” من خلال السوق، ما يبرز دور البورصات كمحرك للتطور العلمي والصناعي.
لكن هذا التمويل قد ينطوي أيضًا على تضخم مبالغ فيه في القيمة السوقية، كما حدث مع “تسلا” التي بلغ مضاعف الربحية لأسهمها أكثر من 150 في منتصف عام 2025، ما يثير تساؤلات جدية حول مدى واقعية هذه التقييمات وقابليتها للاستدامة.
من ناحية أخرى، تسهم أسواق الأسهم في توسيع قاعدة الملكية، خاصة في دول مثل الولايات المتحدة حيث يمتلك حوالي 58% من السكان أسهماً بشكل مباشر أو غير مباشر.
لكن الواقع يكشف أن أغنى 10% يملكون ما يصل إلى 93% من إجمالي الأسهم، مما يعكس تركيزًا حادًا للثروة ويطرح تساؤلات حول التوزيع العادل للمكاسب.
التجربة الأوروبية تظهر أن رفع الوعي المالي يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا في استقرار الأسواق وسلامتها.
فوفقًا لبيانات المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن تحسين الثقافة المالية هو ركيزة ضرورية لتحقيق توزيع أفضل للمكاسب وتجنب فخاخ الاستثمار العشوائي التي قد تؤدي إلى خسائر فادحة للمستثمرين الأفراد.
وفي الدول النامية، تعد سوق الأسهم أداة مهمة لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية على حد سواء. وخير مثال على ذلك الهند التي استقطبت في عام 2021 ما يزيد عن 83.6 مليار دولار، 65-75% منها عبر البورصة، ما ساعد في تمويل مشاريع تكنولوجية وبنية تحتية حيوية.
لكن هذه الديناميكية تنطوي على مخاطر أيضًا، إذ قد تتركز الاستثمارات في قطاعات دون غيرها، مثل التكنولوجيا على حساب الزراعة والصناعات الصغيرة، ما يؤدي إلى اختلال هيكلي في الاقتصاد الوطني.
كذلك قد يؤدي الاندفاع غير المنظم للمستثمرين، وخاصة غير المحترفين، نحو الطروحات الأولية ذات التوقعات العالية أو الأسهم المرتفعة بشكل مبالغ فيه إلى شح السيولة في السوق وتراجع الاستثمارات الجديدة في الاقتصاد الحقيقي. هذا التحول للفوائض المالية إلى أدوات مضاربية بدلاً من توجيهها نحو الإنتاج الفعلي قد يعيق التنمية الاقتصادية الشاملة.
ورغم دور سوق الأسهم في إعطاء مؤشرات مبكرة لحالة الاقتصاد — إذ تميل الأسواق للهبوط قبل الركود والصعود قبل الانتعاش — إلا أن هذا التأثير قد يكون سيفًا ذا حدين.
ففي بعض الأحيان، يمكن أن يُحدث الذعر في السوق ويقود إلى أزمة ذاتية التحقق، كما حدث في الأزمة المالية العالمية عام 2008، حين فقدت الأسواق الأمريكية أكثر من نصف قيمتها، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت معدلات البطالة 10%.
ورغم ذلك، ليست كل التراجعات كارثية بالضرورة. فقد شهدت السوق الأمريكية في 19 أكتوبر 1987 ما يُعرف بـ”الاثنين الأسود”، عندما هبطت بنسبة 20% في يوم واحد، إلا أن الاقتصاد أنهى نفس العام بنمو إيجابي بلغ 3.5%، مما يدل على قدرة الاقتصادات على امتصاص الصدمات والتعافي.
في المحصلة، تؤدي أسواق الأسهم دورًا محوريًا لا غنى عنه في تجميع رؤوس الأموال وتحفيز النمو الاقتصادي.
لكن فعاليتها وقدرتها على تحقيق أهدافها الإيجابية تتوقف على التوازن الدقيق بين حرية السوق ودور الدولة في الضبط والتوجيه، إضافة إلى ضرورة نشر الوعي المالي لدى الأفراد والمجتمع ككل.
إذ بدون سياسات متزنة ورقابة فعالة ووعي مجتمعي متزايد، قد تتحول نعمة سوق الأسهم إلى نقمة على الاقتصاد والمجتمع، مما يقود إلى تدهور الاستقرار المالي والاجتماعي.