دواء في قبضة النزاعات: كيف تهدد القيود التجارية حق الإنسان في العلاج ؟

في أحياء بوغوتا الهادئة، كان كارلوس ميندوزا، موظف البريد المتقاعد، يعيش حياة عادية رغم معاناته من مرض السكري وأمراض القلب المزمنة.
كان يعتمد على أدوية بسيطة تؤمن له ثبات حالته الصحية وتمكنه من قضاء أيامه بهدوء. لكن مع مطلع عام 2024، بدأت هذه الحياة تنقلب رأسًا على عقب، حين بدأ يعاني من نقص مستمر في توفر أدويته الأساسية. كل أسبوع، كان الصيدلي يعتذر قائلاً إن الشحنة لم تصل بعد بسبب تأخيرات في الاستيراد.
لم يكن كارلوس يدرك تفاصيل الصراعات السياسية والاقتصادية التي تحكمت في وصول دوائه، لكنه شعر بخطر يهدد حياته حين تدهورت صحته تدريجيًا، وانتهى به المطاف في المستشفى إثر نوبة قلبية بعد شهرين من انقطاع الدواء.
هذه القصة ليست مجرد مأساة فردية، بل تمثل انعكاسًا حقيقيًا لأزمة متفاقمة تكتوي بها شعوب كثيرة حول العالم: أزمة توفر الأدوية في ظل تصاعد القيود التجارية التي تحول دون حصول المرضى على حقهم في العلاج.
مع تصاعد التوترات الجيوسياسية وانتشار النزعة الحمائية الاقتصادية، تعمقت الفجوة بين الدول والشعوب القادرة على تأمين أدويةها وتلك المحرومة منها.
ورغم الاهتمام المتزايد بالأمن الغذائي والطاقة، يبقى الأمن الصحي العالمي على صفيح ساخن، معرضًا لخطر أزمات حقيقية تهدد الجميع، من الدول المتقدمة إلى الدول الفقيرة.
صناعة الأدوية مركزة في عدد قليل من الدول التي تمتلك التكنولوجيا المتطورة، رأس المال، والبنية البحثية المتقدمة، مما يمنحها سيطرة واسعة على سلاسل الإمداد الدوائي حول العالم. الولايات المتحدة الأمريكية تقود هذا المجال، بشركات ضخمة مثل “فايزر” و”موديرنا” و”جونسون آند جونسون”، بالإضافة إلى استحواذها على نصف الإنفاق العالمي للأبحاث الدوائية.
في أوروبا، تبرز دول مثل ألمانيا وسويسرا وفرنسا بدورها في تصنيع اللقاحات والأدوية البيولوجية عبر شركات كبرى مثل “روش” و”سانوفي” و”بيونتيك”.
على الجانب الآخر، تلعب الصين والهند دورًا حيويًا في تصنيع المواد الخام الفعالة والأدوية الجنيسة، حيث تغطي الصين حوالي 40% من هذه المواد، وتنتج الهند أكثر من 20% من الأدوية الجنيسة عالميًا.
هذا التركيز يوفر فاعلية إنتاجية ويخفض التكاليف، لكنه يجعل النظام الصحي العالمي هشًا أمام أي اضطرابات سياسية أو كوارث طبيعية قد تعطل خطوط الإنتاج في هذه الدول.
في السنوات الأخيرة، استخدمت بعض الحكومات الأدوات التجارية كآليات ضغط سياسي، من خلال فرض قيود على تصدير الأدوية والمستلزمات الطبية.
و كان ذلك واضحًا خلال جائحة كورونا، عندما فرض أكثر من 60 بلدًا قيودًا على صادرات المعدات الطبية، ما تسبب في نقص حاد في أسواق الدول الأكثر هشاشة.
أدى هذا إلى زيادة تكلفة شحن وبيع المنتجات الطبية عبر الحدود بنسبة قد تصل إلى 60%، بينما لجأت دول كبرى إلى تخزين كميات ضخمة من الأدوية، كما حدث في الولايات المتحدة التي ارتفعت وارداتها الدوائية إلى 53 مليار دولار في مارس 2025، بزيادة تجاوزت 160% مقارنة بالعام السابق.
في المقابل، واجهت دول أخرى أزمات حقيقية في تأمين الأدوية، كما حدث في فنزويلا التي انهار فيها نظام الرعاية الصحية وانتشرت الأمراض بسبب العقوبات الاقتصادية.
يعتمد العالم على شبكات معقدة من سلاسل التوريد التي تنقل الأدوية بين دول متعددة. ولكن مع تزايد النزاعات التجارية، تظهر هشاشة هذا النظام، كما حدث مع الصين، أكبر مصدر للمواد الفعالة، التي شهدت اضطرابات في الإنتاج عام 2025 بسبب التوترات مع الولايات المتحدة، مما أدى إلى تأخير الشحنات وتقليص التصدير.
هذا الواقع تسبب في نقص أدوية حيوية مثل المضادات الحيوية، وأدوية القلب، والطب النفسي، ما أجبر بعض الدول على تقنين الصرف أو اللجوء إلى بدائل محلية أقل جودة، مما يهدد صحة ملايين المرضى.
ارتفاع أسعار الأدوية الأصلية وتراجع الإمدادات جعل الأسواق في الدول النامية عرضة لتغلغل الأدوية المغشوشة أو منخفضة الجودة. هذه الأدوية تشكل خطرًا صحيًا جسيمًا عند استخدامها لعلاج أمراض خطيرة، وتتسبب سنويًا في وفاة ملايين الأشخاص، فضلاً عن خسائر مالية فادحة.
تقديرات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن 30% من الأدوية في الدول النامية إما مغشوشة أو غير فعالة، ما يشكل تحديًا ضخمًا للمنظومات الصحية في هذه البلدان.
حصة أكبر 10 دول مصنعة للدواء في السوق العالمي في عام 2024
الترتيب |
الدولة |
النسبة (%) |
1 |
الولايات المتحدة |
53.2 |
2 |
الصين |
7.5 |
3 |
ألمانيا |
4.7 |
4 |
اليابان |
4.1 |
5 |
فرنسا |
3.3 |
6 |
إيطاليا |
3 |
7 |
المملكة المتحدة |
2.8 |
8 |
إسبانيا |
2.3 |
9 |
كندا |
2.3 |
10 |
البرازيل |
2.2 |
في مواجهة هذه التحديات، بدأت دول مثل البرازيل تبني استراتيجيات لتحقيق السيادة الدوائية، عبر تصنيع محلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، مما مكنها من تغطية 85% من احتياجاتها الدوائية في القطاع العام.
لكن إعادة بناء سلاسل التوريد محليًا مكلفة للغاية، حيث تشير الدراسات إلى أن نقل 10% فقط من سلاسل الإمداد إلى الداخل قد يكلف أكثر من تريليون دولار خلال عشر سنوات.
لذلك، تتزايد الدعوات لإصلاح النظام العالمي عبر إزالة الرسوم الجمركية، تقليص القيود على التصدير، تعزيز التعاون التنظيمي، وتبادل الملكية الفكرية أثناء الأزمات الصحية الكبرى.
في عالم تشهد تصاعد النزاعات السياسية والاقتصادية، يجب أن تبقى الأدوية بمنأى عن التوترات لتظل حقًا إنسانيًا أساسياً، وليس أداة للضغط أو ورقة مساومة.
حين يتحول الوصول إلى العلاج إلى صراع تجاري وسياسي، يكون المجتمع الدولي أمام أزمة أخلاقية وصحية تهدد مستقبل الصحة العالمية، مما يستوجب تحركًا عاجلاً لضمان أن يظل الدواء متاحًا لكل محتاج، بغض النظر عن الحدود أو الخلافات.