الاقتصادية

تقارب صامت يعيد رسم التوازنات.. الهند وروسيا تفتحان بوابة القطب الشمالي

مرّت زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قبل أيام قليلة بهدوء لافت، من دون أن تحظى بالاهتمام الذي تستحقه في دوائر التحليل الجيوسياسي.

غير أن ما جرى خلف الأبواب المغلقة يوحي بأن الزيارة شكّلت محطة مفصلية في مسار العلاقات بين موسكو ونيودلهي، وأحد أبرز مؤشرات إعادة تشكيل التحالفات الدولية في مرحلة تتسم بتسارع التحولات الاستراتيجية.

في قلب هذه الزيارة، برزت المصادقة على اتفاقية الدعم اللوجستي المتبادل (RELOS)، التي توسّع التعاون العسكري بين البلدين إلى آفاق غير مسبوقة، وتفتح أمام الهند بوابة القطب الشمالي الروسي وطريق بحر الشمال، أحد أكثر الممرات البحرية الواعدة في القرن الحادي والعشرين.

يشكّل القطب الشمالي حجر زاوية في العقيدة العسكرية والطاقوية الروسية. ففي هذه المنطقة الحساسة، وتحديدًا في شبه جزيرة كولا، يتمركز جزء كبير من الأسطول النووي الروسي، بما في ذلك غواصات استراتيجية تشكّل عماد قدرة “الضربة الثانية” لدى موسكو.

كما تُستخدم المنطقة لاختبار أحدث أنظمة التسليح، من الصواريخ فرط الصوتية إلى التقنيات النووية المتقدمة.

ولا تقتصر أهمية القطب الشمالي على البعد العسكري فحسب، إذ يضم احتياطيات هائلة غير مستغلة من النفط والغاز والمعادن الاستراتيجية، ما يجعله ركيزة أساسية في خطط روسيا الاقتصادية ومصدرًا حيويًا لتمويل تحديث قواتها المسلحة في ظل العقوبات الغربية.

تتيح اتفاقية RELOS للقوات المسلحة في البلدين استخدام القواعد والموانئ والمطارات لأغراض التزود بالوقود والصيانة والدعم اللوجستي، فضلًا عن تسهيل المناورات المشتركة ومهام الإغاثة الإنسانية. لكن القراءة الأعمق تكشف أن الاتفاق يتجاوز الإطار الفني إلى أبعاد استراتيجية بعيدة المدى.

فبالنسبة للهند، يوفّر الاتفاق وصولًا عمليًا إلى موانئ روسية استراتيجية مثل مورمانسك، ويمنحها حضورًا فعليًا على طريق بحر الشمال، الذي يمكن أن يقلص زمن الشحن بين آسيا وأوروبا بشكل كبير. كما يعزز قدرة نيودلهي على الانتشار البحري بعيدًا عن محيطها التقليدي، دون الارتهان الكامل للشركاء الغربيين.

أما روسيا، فيمنحها الاتفاق منفذًا موثوقًا إلى المحيط الهندي عبر القواعد والمنشآت الهندية، وهو ما طالما سعت إليه لتعزيز حضورها البحري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. ويعزز ذلك من قدرتها على المشاركة في مناورات عسكرية أوسع وإظهار العلم الروسي في مناطق استراتيجية حساسة.

يحمل هذا التقارب دلالات رمزية واضحة. فإدماج الهند في المشروع الروسي في القطب الشمالي يمنح طموحات موسكو هناك قدرًا إضافيًا من الشرعية الدولية، ويوجه رسالة مفادها أن روسيا، رغم العقوبات، لا تزال قادرة على استقطاب شركاء كبار.

وفي المقابل، تكرّس الهند موقعها كلاعب صاعد في الجغرافيا السياسية القطبية، وتؤكد استقلالية قرارها الاستراتيجي في موازنة علاقاتها بين الشرق والغرب.

على المدى القريب، تبدو الطاقة العامل الأكثر حساسية في هذا التقارب. فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تحولت الهند إلى أحد أكبر مستوردي النفط الروسي، مستفيدة من الخصومات الكبيرة التي وفّرت لها إمدادات منخفضة التكلفة دعمت نمو اقتصادها.

ورغم الضغوط الغربية، واصلت نيودلهي تعزيز تعاونها الطاقوي مع موسكو، فيما حرص بوتين خلال زيارته الأخيرة على التأكيد على التزام بلاده بتوفير إمدادات مستقرة من النفط والغاز والفحم.

في المقابل، كثّفت الولايات المتحدة مساعيها لتعزيز الشراكة مع الهند، سواء عبر عروض الطاقة أو من خلال مبادرات دفاعية وتجارية طموحة، في محاولة للحفاظ على نيودلهي ضمن دائرة نفوذها الاستراتيجي.

بين موسكو وواشنطن، تمضي الهند في سياسة توازن دقيقة، مستندة إلى شبكة علاقات عسكرية واقتصادية وطاقوية متشابكة مع روسيا يصعب تفكيكها سريعًا. ومع اتساع رقعة التعاون في القطب الشمالي، يبدو أن الشراكة الهندية–الروسية تدخل مرحلة أكثر عمقًا، قد تعيد رسم خطوط النفوذ في أكثر مناطق العالم حساسية خلال السنوات المقبلة.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى