الاقتصادية

تحديات القيادة الحديثة: لماذا أصبحت الإدارة الرشيدة ضرورة استراتيجية؟

لم يعد العمل في عالمنا المعاصر مسألة بسيطة تتعلق بتحقيق الأرباح ربع السنوية. تجد الشركات نفسها اليوم في خضم بيئة أعمال تتزايد فيها التحديات وتتشابك تعقيداتها، ما يتجاوز الإطار التقليدي لاختصاصات وخبرات المديرين التنفيذيين ومجالس الإدارة.

إن التعامل مع اختناقات سلاسل الإمداد، وضمان استقرار شبكات الطاقة، والاستجابة للتحولات المستمرة في المشهد التنظيمي، وتلبية الحاجة الماسة لتعزيز الأمن السيبراني ليست سوى جزء من الصورة.

لتتمكن المؤسسات من تحسين أدائها وبناء قيمة حقيقية، عليها أن تتخذ قرارات استراتيجية طويلة الأمد لا تقتصر فوائدها على التقارير المالية ربع السنوية.

يجب أن تستجيب هذه القرارات لثلاثة محركات هيكلية رئيسية تُشكل اقتصادنا الكلي وتُعرف باسم “المشكلات شبه السيادية”، وهي تحديات لا يمكن للحكومات وحدها حلها، بل تتطلب دورًا فعالًا من القطاع الخاص:

  1. الظروف المالية المتقلبة: التعامل مع التغيرات المستمرة في أسواق المال والوضع الاقتصادي في الاقتصادات الكبرى (مثل أمريكا وأوروبا).
  2. ندرة الموارد البيئية والطاقة: التنافس على الموارد الطبيعية لتلبية الطلب المتزايد على الطاقة، فضلًا عن إدارة التغيرات البيئية التي تؤثر مباشرة في العمليات والإنتاجية.
  3. رأس المال البشري والمواهب: ضمان توافر المواهب والمهارات المستقبلية، بما في ذلك تمويل الاستثمارات التكنولوجية وتطوير القوى العاملة.

إن المديرين التنفيذيين الذين يتمكنون من التغلب على هذه التحديات الثلاثة الحاسمة – المالية والبيئية والمواهب – سيكونون الأكثر قدرة على جذب رؤوس الأموال الوفيرة والصمود في وجه الصدمات والتحولات المجتمعية والثقافية الحتمية.

نُطلق على النهج الفعّال والمتوازن الذي نقدمه لقادة الأعمال اسم “مفهوم الإدارة الرشيدة” (Stewardship). يرتكز هذا المفهوم على فكرة أن الشركات ليست مجرد كيانات لتحقيق الأرباح القصيرة الأجل، بل هي أوصياء على الموارد والقيمة لصالح الأجيال القادمة، والموظفين، والعملاء، والمستثمرين.

True Leadership: Purpose or Position? - Youth Arise Organization

لـ “الإدارة الرشيدة” جذور تاريخية ودينية تُشير إلى ضرورة استخدام الهبات والخيرات بـ “حكمة، وصيانة، وتنمية”. ولكن في سياق الأعمال الحديث، يتطور المفهوم ليشمل:

  • الوعي بالآثار المتتالية: إدراك التأثيرات الإيجابية والسلبية لعمليات الشركة على المجتمع، بما في ذلك الآثار البيئية.
  • الإبداع وريادة الأعمال: تشجيع الجانب الإبداعي في التخطيط والابتكار والمخاطرة المحسوبة لخلق الثروة.
  • أهمية الأرباح كشرط للاستدامة: عدم نفي أهمية الأرباح، بل اعتبارها وقودًا ضروريًا لضمان استمرارية الشركة، وتمويل الاستثمارات، وتوفير فرص العمل.

تُمثل ثقافة “الإدارة الرشيدة” جوهر الجدال الدائر منذ عقود بين أصحاب المصلحة (Stakeholders) والمساهمين (Shareholders). إنها تدعو إلى تعريف التقدم الاقتصادي والقيمة الدفترية للشركات بمصطلحات أوسع بكثير تتجاوز مجرد مقاييس الأرباح أو عوائد المساهمين الضيقة.

على الرغم من أن البعض قد يتساءل عن أهمية هذه الاعتبارات في أوقات تبدو فيها مؤشرات الأسهم قوية وتراجعت فيها مؤقتًا التركيز على الاستدامة والحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG)، إلا أن هناك حافزًا اقتصاديًا هائلًا يفرض تبني “الإدارة الرشيدة”.

نحن نشهد حاليًا أكبر عملية انتقال للثروة بين الأجيال في التاريخ. تشير التقديرات إلى أنه سيتم نقل ما يصل إلى 83 تريليون دولار خلال الخمسة والعشرين عامًا القادمة عالميًا.

في دول مثل الولايات المتحدة، تُحفظ غالبية هذه الثروة في أصول مالية (مثل الأسهم والأدوات المالية)، وليس العقارات.

مع انتقال هذه الثروة إلى الأجيال المتعاقبة، سيُصبح هؤلاء الورثة قوة استثمارية دافعة في الأسواق. إنهم، ومكاتب العائلات التي تدير ثرواتهم، سيكونون أكثر ميلًا للاستثمار في الشركات والصناديق التي تُجسّد ممارسة “الإدارة الرشيدة” وتُظهر التزامًا ببناء القيمة على المدى الطويل.

بهذا، يجد المدراء التنفيذيون أنفسهم مطالبين بالاقتداء بالمستثمرين المؤسسيين الكبار، مثل صناديق الثروة السيادية والتقاعد، الذين يعملون بالفعل كأوصياء على الأمد الطويل ويستخدمون نفوذهم لتوجيه رؤوس الأموال نحو الشركات التي تتبنى معايير الاستثمار المستدام والرشيد.

الإدارة الرشيدة ليست مجرد واجب أخلاقي، بل هي بوابة للاستثمار وجذب رأس المال في العصر الجديد.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى