بين مشاريع البنية التحتية ونزيف الكفاءات.. هل يفقد المغرب رأس ماله البشري؟

في الوقت الذي يواصل فيه المغرب تنفيذ مشاريع كبرى وإصلاحات عميقة في قطاعات استراتيجية مثل التعليم، الصحة، والاقتصاد الأخضر، تبرز إشكالية حقيقية تقف حجر عثرة أمام طموحاته التنموية: ضعف الاستثمار في العنصر البشري، الذي أصبح يشكل الثغرة الأكبر في مسار التحول الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
فبينما تتعزز البنية التحتية وتتسارع وتيرة الرقمنة والانتقال الطاقي، لا يزال المغرب يواجه صعوبة متنامية في الاحتفاظ بكفاءاته الوطنية التي تغادر بأعداد متزايدة نحو الخارج بحثاً عن بيئة أفضل للعيش والعمل.
هذا النزيف المعرفي والمهني، الذي يهدد مستقبل العديد من الأوراش، بات محط تحذير من شخصيات بارزة في دوائر القرار.
في تصريح صريح عقب المنتدى الثالث والعشرين للاستقرار المالي الإسلامي، شدد عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، على أن التحدي الرئيسي لا يتعلق بالبنية التحتية أو التمويل، بل بقدرة البلاد على استبقاء رأسمالها البشري.
وأشار إلى أن بنك المغرب فقد 20 مهندسًا في ظرف عامين فقط، بعد أن استقطبتهم مؤسسات أجنبية تقدم عروضًا مالية مغرية وتوفر امتيازات اجتماعية مغرية، خاصة في ما يتعلق بتمدرس الأبناء والحصول على جنسية البلد المضيف.
وأكد الجواهري أن هذا الوضع لا يخص المغرب وحده، بل هو معضلة تعاني منها العديد من الدول الإفريقية التي تجد صعوبة في المنافسة ضمن سوق عالمي يتسابق على استقطاب العقول والمهارات.
بدوره، شدد فؤاد عالي الهمة، مستشار جلالة الملك، في تصريح سابق، على أن التحدي الأكبر لا يتعلق بندرة الموارد، بل بغياب الوعي والقدرة على المبادرة. وأوضح أن الفقر الحقيقي هو فقر في الذهنية والتمكين، وليس في الإمكانات.
واستشهد الهمة بالنموذج الياباني الذي، رغم افتقاره للموارد الطبيعية، استطاع أن يحقق طفرة اقتصادية هائلة بفضل استثماره العميق في العنصر البشري.
كما اعتبر أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تمثل تتويجاً عملياً لهذا التوجه، من خلال تركيزها على تمكين المواطن وتحفيز طاقاته بدل الاكتفاء بالدعم المادي.
وتشير المعطيات الرسمية إلى أن المغرب يفقد آلاف الكفاءات سنوياً، خصوصاً في قطاعات حساسة مثل الطب والهندسة وتكنولوجيا المعلومات. إذ يُقدّر أن حوالي 600 طبيب و1000 مهندس يغادرون البلاد كل سنة نحو أوروبا ودول الخليج.
ورغم إحداث مؤسسات جامعية جديدة ومحاولات لتطوير منظومة التكوين المهني، إلا أن الهوة بين العرض التكويني وحاجيات سوق الشغل ما تزال قائمة، وتُفرغ هذه المبادرات من فعاليتها في ظل غياب سياسة ناجعة للتحفيز والاستبقاء.
يجمع الخبراء على أن تجاوز هذا التحدي يتطلب رؤية شاملة تنطلق من إصلاح المدرسة والجامعة، وتمر عبر التكوين المستمر، وتنتهي ببناء سوق شغل عادل ومحفّز.
كما يدعون إلى اعتماد نظام تحفيزي فعّال يمنح الكفاءات الشابة آفاقًا واضحة وفرصًا تنافسية، إلى جانب تسهيل عودة الكفاءات المغربية المقيمة بالخارج.
قد يكون المغرب قد خطا خطوات مهمة على مستوى البنيات والرقمنة والطاقة، لكن الرهان الأهم يبقى هو الاستثمار في الإنسان. فلا تنمية حقيقية دون رأس مال بشري واعٍ، مؤهل، ومنخرط في بناء المستقبل. التحدي ليس في ما نملكه من موارد، بل في من يملك الوعي والإرادة لتحويلها إلى فرص.