الاقتصادية

الزعامة على المحك: قراءة في مستقبل العلاقة بين أمريكا والصين

في لحظة تاريخية تتشابك فيها الأزمات الدولية وتتصاعد المنافسة على الزعامة العالمية، تبرز المخاوف من أن تكون البشرية مقبلة على اختبار جديد لمعادلات القوة التي حكمت القرون الماضية. وبين واشنطن وبكين، الخصمين اللدودين في هذا العصر، تتشكل ملامح صراع غير معلن قد يتحوّل في أي وقت إلى مواجهة مفتوحة إذا لم تُحسن القيادتان إدارة التوتر المتصاعد بينهما.

هذا المشهد المضطرب هو ما يتناوله كتاب «محكومون بالحرب: هل تستطيع أمريكا والصين تفادي فخ ثيوسيديدس؟» للمفكر الأمريكي غراهام أليسون، الذي يعود من خلاله إلى التاريخ بحثاً عن إجابات لما قد يواجهه العالم في المستقبل القريب.

غراهام أليسون، أحد أبرز الباحثين في العلاقات الدولية، يستند في كتابه إلى مفهوم «فخ ثيوسيديدس»، الذي يفترض أن القوة القائمة غالباً ما تدخل في صدام مع القوة الصاعدة التي تهدد موقعها.

وبالعودة إلى خمسة قرون من التاريخ، سجّل الباحثون ست عشرة حالة مشابهة، تحوّلت اثنتا عشرة منها إلى حروب مدمّرة، بينما استطاعت أربع فقط تجنّب الانفجار.

وبحسب أليسون، فإن العلاقة الحالية بين الولايات المتحدة والصين تحمل السمات ذاتها التي سبقت اندلاع تلك الحروب الكبرى عبر التاريخ، ما يجعل احتمال الصدام بينهما قائماً بقوة.

الكتاب نفسه يبدو كتحذير مبكر من مستقبل قد يكون قاتماً. فمن خلال «ملف فخ ثيوسيديدس» الصادر عن مركز بيلفر بجامعة هارفارد، يستعرض أليسون أحداثاً تاريخية توضّح كيف أدت المنافسة على النفوذ إلى الحروب، وكيف أمكن في أحيان قليلة تجنّب تلك المصائر عبر حلول دبلوماسية مبتكرة.

ومن الأمثلة التي يستشهد بها: التفاهم التاريخي بين البرتغال وإسبانيا في القرن الخامس عشر، والمسار السلمي الذي تبنّته بريطانيا والولايات المتحدة مطلع القرن العشرين، بالإضافة إلى توازن الرعب النووي بين واشنطن وموسكو خلال الحرب الباردة.

يرى أليسون أن على الولايات المتحدة إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، وأن تتجنب الدخول في صراعات لا تمسّ مصالحها الحيوية بشكل مباشر. كما يطالبها بفهم الصين من الداخل بدلاً من افتراض أنها ستتصرّف على النمط الأمريكي نفسه.

ويركّز الكاتب على أهمية إعطاء الملفات الداخلية أولوية قصوى، مؤكداً أن التعامل مع صعود الصين يحتاج إلى سياسات واضحة وواقعية، بعيداً عن المغامرات العسكرية.

يسلّط الكتاب الضوء على التحول الاقتصادي الضخم الذي شهدته الصين خلال العقود الماضية، مستشهداً بأرقام تكشف حجم التغيير بين عامي 1980 و2015:

  • الناتج المحلي ارتفع من 7% إلى 61% من حجم الاقتصاد الأمريكي.

  • الواردات الصينية قفزت من 8% إلى 73% من مستوى الواردات الأمريكية.

  • الصادرات تضاعفت لتصل إلى 151% من مستوى الصادرات الأمريكية.

  • الاحتياطيات النقدية ارتفعت من 16% إلى 3140%.

هذه القفزات، كما يشير أليسن، تعكس صعوداً اقتصادياً غير مسبوق في التاريخ الحديث.

ورغم قوة طرح أليسون، يرى منتقدوه أن فكرة «الحتمية» مبالغ فيها. ففي القرن الحادي والعشرين، أصبحت الحروب الشاملة خياراً مكلفاً إلى حد يصعب تصوّره، خصوصاً بين قوتين نوويتين.

فالردع النووي، في نظر كثير من المحللين، جعل أي مواجهة مباشرة بين الولايات المتحدة والصين مجازفة خاسرة سلفاً. فحتى لو احتفظت واشنطن بتفوق نوعي، فإن بكين تمتلك القدرة على توجيه ضربة انتقامية كفيلة بإحداث دمار هائل، ما يجعل خيار الحرب غير منطقي.

كما أنّ النظام العالمي لم يعد ثنائياً، إذ تشارك روسيا، والاتحاد الأوروبي، واليابان، ودول آسيوية صاعدة في تشكيل موازين القوة. وتبرز الهند وباكستان كقوتين نوويتين تمتلكان معاً نحو 250 رأساً حربياً، ما يزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي.

هذا التشابك يجعل المقارنة مع حالات تاريخية سبقت العصر النووي أقل دقة، لأن العلاقات الدولية اليوم قائمة على تحالفات ومصالح متداخلة تمنع الانزلاق السريع نحو المواجهة.

يبقى كتاب «محكومون بالحرب» عملاً فكرياً ثرياً يقدّم أدوات مهمة لفهم طبيعة الصراع بين القوى الكبرى، لكنه لا يجب أن يُقرأ كنبوءة حتمية باندلاع الحرب. فالعالم اليوم أكثر ترابطاً من أي وقت مضى، والانزلاق نحو صدام مباشر بين بكين وواشنطن سيكون بمثابة كارثة عالمية.

الكتاب، في جوهره، دعوة إلى التفكير في حدود القوة، ومسؤوليات القيادة، ودور الدبلوماسية في عالم يحتاج إلى الحكمة أكثر مما يحتاج إلى السلاح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى