الإصلاح الليبرالي الرأسمالي: القوى الخفية وراء سياسات القرن التاسع عشر وتأثيرها المستمر

على مدى قرون، شكّلت الإصلاحات الليبرالية الرأسمالية ملامح الاقتصاد العالمي الحديث، لكن القوى التي صنعتها والأطراف التي استفادت منها ظلت غامضة للكثيرين.
في كتابه الأخير “تاريخ التحول الرأسمالي”, يقدم المؤرخ الاقتصادي جيامباولو كونتي قراءة معمّقة لتاريخ هذه الإصلاحات منذ القرن التاسع عشر، مستعرضاً كيف صاغت القوى الاقتصادية والسياسية السياسات، وكيف مكّنتها آليات محددة من النفاذ إلى الأسواق المحلية والدولية.
يركّز الكتاب على ثلاثة محاور رئيسية: اتفاقيات التجارة الحرة، الدين العام، وتشكّل النخب المحلية، مستخدماً منهجاً يجمع بين النظرية الاقتصادية للنظام العالمي والدراسات التاريخية المقارنة، ليكشف عن شبكة معقدة من المصالح المشتركة بين الدول المهيمنة ورأس المال والنخب المحلية.

يستهل كونتي تحليله بمناقشة كلاسيكية في علم الاجتماع التاريخي: هل تولّد الأفكار مصالح، أم أن المصالح القائمة تفرض تبني أفكار محددة؟ من خلال هذا التساؤل، يقدم المؤلف مفهوم “السياقات الجيو-مالية”، أي حركة تراكم رأس المال عبر الحدود ودور التجارة الحرة والدين العام في تشكيل نخب محلية تتحول لاحقاً إلى حاملي مشروع الإصلاح الليبرالي الرأسمالي.
بهذه الطريقة، يرى الكتاب أن الإصلاحات ليست مجرد خيارات فكرية، بل نتيجة تفاعل معقّد بين هياكل القوة العالمية والمصالح الطبقية المحلية ضمن مسار تطور الاقتصاد الرأسمالي.
يعتمد كونتي على دراسة القرن التاسع عشر، عندما دفعت الإمبراطورية البريطانية باتجاه فرض إصلاحات ليبرالية رأسمالية على أطراف نظامها العالمي، مثل الدولة العثمانية والصين، بهدف مواءمة اقتصادات هذه الدول مع قواعد المركز الإمبراطوري وضمان استقرار الأرباح.
ويستحضر المؤلف تصور كارل ماركس عن الدور التاريخي للبرجوازية، مؤكداً أن هذا المنطق يظل صالحاً لفهم العلاقات الاقتصادية والسياسية اليوم: من هم الفاعلون المهيمنون، وكيف تُستهدف الأطراف عبر إصلاحات تُقدّم على أنها تقدم اقتصادي، لكنها تخدم مصالح محددة؟
يوضح كونتي أن اتفاقيات التجارة الحرة لم تكن مجرد أدوات لتبادل السلع، بل آليات سياسية واقتصادية أسهمت في تكوين نخب محلية استفادت من الانفتاح التجاري. خلال الأزمات المالية، عززت هذه النخب مواقعها لتصبح القوة الدافعة وراء موجات الإصلاح الليبرالي الرأسمالي.
ويعتمد التحليل على أعمال فرناند بروديل، وإيمانويل والرشتاين، وجوفاني أريغي، بالإضافة إلى أفكار غرامشي وليست وكراسنر، مع التمييز بين الإصلاحات الليبرالية والمحافظة والاشتراكية، وتسليط الضوء على كيفية تآكل سيادة الدولة تحت ضغط السياسات النقدية والمالية الخارجية.
يفصل الكتاب آليات اتفاقيات التجارة الحرة، محدداً ثلاثة أطراف مستفيدة: الدولة المهيمنة لتعزيز موقعها الجيوسياسي، رأس المال لزيادة الأرباح، والنخب المحلية لتوسيع نفوذها، غالباً عبر وهم المكاسب الاقتصادية.
ثم تأتي مرحلة الدين العام، الأكثر تأثيراً، حيث يتحول الاقتراض إلى أداة ضغط سياسي. وعند اندلاع الأزمات، تُفرض سياسات ضريبية على الطبقات العاملة، وتُقوّض السيادة النقدية عبر ديون مقومة بالعملات الأجنبية أو الذهب، مما يقيد الدول الطرفية في مسار الليبرالية المتزايدة.
في دراسة مقارنة، يطبق كونتي تحليله على الصين، الدولة العثمانية، ومصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تظهر النتائج نمطاً متكرراً: اتفاقيات تجارية تُنتج نخباً جديدة → أزمات مالية تعزز نفوذها → تصاعد الديون الخارجية وإنشاء بنوك مركزية تخدم مصالح الدائنين.
يخلص المؤلف إلى أن الليبرالية الرأسمالية لا تزال الإطار الموجّه للدول الطرفية، إذ توفر البنية القانونية والفكرية لتعظيم الاستغلال الاقتصادي من قبل الدول المهيمنة والنخب الرأسمالية.
رغم قوة التحليل، يفتح الكتاب النقاش حول استقلالية الدولة عن النخب المهيمنة، وإمكانية تحقيق “سيادة فعلية” مقابل التنازل عن سيادة قانونية. ومع التحولات العالمية، من تراجع الهيمنة الأمريكية إلى صعود الصين، يطرح كونتي سؤالاً مركزياً: هل ستظل الليبرالية الرأسمالية الإطار الأساسي، أم أن الرأسمالية المستقبلية ستكون أكثر اعتماداً على الدولة أو القوى التكنولوجية الجديدة؟
يبقى “تاريخ التحول الرأسمالي” مرجعاً ضرورياً لفهم جذور الحاضر الاقتصادي والسياسي، وحافزاً لإعادة التفكير في معنى الإصلاح ومن يخدمه فعلياً في عالم تتغير موازين قوته بوتيرة متسارعة.




