الاقتصادية

“أمريكا بلا هجرة”..الاستراتيجية الأكثر خطورة على الاقتصاد ومستقبل الابتكار

تستعد الولايات المتحدة، ولأول مرة منذ خمسينيات القرن الماضي، لتسجيل صافي هجرة يقارب الصفر أو يتحول إلى رقم سلبي في عام 2025، وهو ما يمثل نقطة تحول تاريخية قد تكون مدمرة.

بعدما تجاوز عدد المهاجرين السنوي 2.5 مليون في نهاية الولاية السابقة، تسعى إدارة دونالد ترامب إلى تطبيق سياسة “أمريكا بلا هجرة” الصارمة، والتي يعتبرها الكثيرون أخطر سياساته الاقتصادية حتى الآن.

فبينما كان ترامب يركز سابقاً على رفع الرسوم الجمركية ومهاجمة الاحتياطي الفيدرالي، تستهدف سياسته الحالية إغلاق الباب أمام تدفق العقول والعمالة، وهو ما يعد أحد الأعمدة الأساسية للقوة الاقتصادية الأمريكية، خاصة في ظل تسارع شيخوخة السكان وانخفاض نمو القوى العاملة المحلية.

تنفذ الإدارة الحالية هذه السياسة بصرامة غير مسبوقة. الحدود مع المكسيك أُغلقت فعلياً، وشُددت حملات الترحيل عبر وكالة الهجرة والجمارك (ICE) إلى حد دفع العمال إلى التغيب عن وظائفهم خوفاً من المداهمات، وتراجعت طلبات اللجوء إلى أدنى مستوياتها منذ عقود.

لم يقتصر التضييق على المهاجرين غير النظاميين فحسب، بل امتد ليطال الكفاءات العالية؛ حيث أعلنت الإدارة عن فرض رسم هائل قدره 100 ألف دولار على تأشيرة H1-B، وهي المسار الرئيسي لجذب المهندسين والباحثين المتخصصين.

هذا القرار يهدد بتجفيف منابع الابتكار في الجامعات ومراكز الأبحاث، كما يُخيف الطلاب الدوليين الذين يشكلون ركيزة للتقدم العلمي في البلاد.

يشير تحليل الخبراء إلى أن تقليص الهجرة سيؤدي إلى انكماش في حجم الاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل، مما سيعقد مهمة سداد الديون الوطنية وتمويل المؤسسات الحيوية.

كما ستتراجع الإنتاجية، وهي المحرك الأساسي للازدهار، بسبب نقص اليد العاملة وتضاؤل الابتكار.

بدأت الآثار السلبية قصيرة المدى بالظهور فعلاً؛ إذ تواجه قطاعات حيوية مثل الزراعة والبناء والخدمات صعوبة في إيجاد عمالة، مما يؤدي إلى ارتفاع التكاليف وتراجع الإنتاج.

وتشير التقديرات إلى أن حملات الترحيل المحدودة في الماضي (2008-2013) أدت إلى ارتفاع أسعار المنازل بنحو 20% نتيجة نقص عمال البناء. وإذا استمر هذا الإغلاق الشامل للحدود، فسيكون الأثر أكثر اتساعاً وحدة.

من ناحية أخرى، قد تعكس هذه السياسة معادلة الاستقرار الاقتصادي. ففي السنوات الأخيرة، ساعد تدفق المهاجرين على تلبية الطلب القوي بعد الجائحة، مما ساهم في “الهبوط السلس” للاقتصاد وتراجع التضخم. أما الآن، فقد يؤدي وقف الهجرة إلى ارتفاع الأسعار مجدداً، مما يجبر الاحتياطي الفيدرالي على إبقاء سياساته النقدية متشددة لفترة أطول.

إن التأثير الأعمق لـ “أمريكا بلا هجرة” يكمن في خسارة العقول والابتكار. فالمهاجرون لا يزيدون حجم القوى العاملة فحسب، بل يرفعون كفاءتها. تشير دراسة لصندوق النقد الدولي إلى أن زيادة نسبة المهاجرين بواقع 1% في الدول المتقدمة يرفع مساهمة الفرد في الناتج المحلي بنحو 2%.

الضرر مضاعف عند منع الكفاءات العالية؛ حيث يساهم المهاجرون ذوو المهارات العالية بنحو ثلث الابتكار الأمريكي، وفقاً لبحوث جامعة هارفارد. ومن المتوقع أن يؤدي فرض الرسوم الضخمة على تأشيرات H1-B إلى تقليص هذا المسار بنسبة 30%، مما يحرم مراكز الأبحاث والجامعات من العلماء الشباب.

كما أن خطط تقليص “برنامج التدريب العملي” للطلاب الأجانب ستدفع العديد من العقول الواعدة إلى الدراسة والعمل في دول منافسة.

تأتي هذه السياسة في وقت حرج، فبدون المهاجرين الجدد ستتراجع أعداد الأمريكيين في سن العمل. ووفقاً لمكتب الميزانية في الكونغرس، كانت موجة الهجرة الأخيرة ستقلص العجز الفيدرالي بنحو 90 مليار دولار سنوياً على مدار العقد المقبل، نظراً لأن المهاجرين يدفعون ضرائب أكثر مما يكلفون الدولة. غيابهم سيعني نمواً أبطأ وعجزاً مالياً أعمق.

المفارقة أن أغلبية كبيرة من الأمريكيين (79%) ينظرون اليوم إلى الهجرة بإيجابية، وهي أعلى نسبة مسجلة.

ومع ذلك، تشير التجارب السابقة إلى صعوبة التراجع عن السياسات الجذرية بمجرد تطبيقها. قد تنجح إدارة لاحقة في إعادة فتح الأبواب بعد سنوات، لكن الضرر الذي سيلحق بالبنية الاقتصادية ومسيرة الابتكار قد يكون حينها غير قابل للإصلاح. وعليه، فإن “أمريكا بلا مهاجرين” قد لا تصبح أكثر أماناً أو اكتفاءً، بل قد تتحول إلى دولة أكثر انغلاقاً وفقراً وأقل قدرة على التنافس عالمياً.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى