الصناعة الألمانية: إرث عريق يواجه تحديات العصر
طُلب من الألمان في استطلاع رأي تلفزيوني عام أجرى مؤخرًا ترتيب أهم مشاكل بلادهم، والنتيجة أنهم اختاروا الاقتصاد في المرتبة الثانية بعد الهجرة، وهي بالطبع أنباء سيئة بالنسبة للمستشار “أولاف شولتز” الذي لا يشعر سوى 18% من المواطنين بالرضا عن أداء وظيفته.
منذ عام 2018، كانت ألمانيا الاقتصاد الأبطأ نموًا بين دول مجموعة السبع، أي تقريبًا نمت بنسبة 0.4% سنويًا في المتوسط، وعلى الرغم من أن بقية دول منطقة اليورو الأربعة الكبار – فرنسا وإيطاليا وإسبانيا – أظهرت علامات على التعافي من التباطؤ الذي أشعله صدمة الطاقة التي سببتها الحرب في أوكرانيا، إلا أن ألمانيا واصلت المعاناة ولا زالت تواجه خطر الركود.
تتزايد المخاوف بشأن الضعف الاقتصادي الواضح في ألمانيا، وخاصة بعد تضرر صناعة السيارات التي كانت تتميز على مستوى العالم بالجودة العالية والثقة والتكنولوجيا، مما قد يدفع بأهم اقتصادات أوروبا للركود مرة أخرى.
يشعر المستهلكون والشركات في ألمانيا بالقلق بسبب عدة عوامل بعضها داخلي والآخر خارجي مثل التباطؤ الاقتصاد المحتمل في الولايات المتحدة، والتوترات الجيوسياسية المتزايدة، والبيئة الاقتصادية المتوترة في بلدهم.
شواهد على الوضع
منذ أوائل 2022، يشهد قطاع التصنيع في ألمانيا حالة ركود مع انقطاع النفط والغاز الروسي الرخيص في أعقاب غزو أوكرانيا، ما عزز تكاليف المدخلات بالنسبة للشركات، إلى جانب تراجع الطلب من الصين – التي تعد أحد شركائها التجاريين الرئيسيين لكنها تعاني ضعف التعافي الاقتصادي حاليًا – إلى تفاقم الركود المطول في قطاع الإنتاج.
ربما تكون معدلات الفائدة المرتفعة وعدم اليقين الجيوسياسي أثرا بصورة كبيرة على أنشطة الاستثمار للشركات وحتى على الإنفاق الاستهلاكي.
تؤكد البيانات الأخيرة ذلك، إذ تراجع مؤشر “إيفو” لمناخ الأعمال -الذي يقيس النشاط الاقتصادي في التصنيع والخدمات والتجارة والبناء- إلى 85.4 نقطة في سبتمبر من 86.6 نقطة في غشت ، ليواصل الانخفاض للشهر الرابع على التوالي.
انخفض مؤشر مديري المشتريات الصناعي – الذي لم يشهد نموًا لأكثر من عامين – إلى 42.4 نقطة في غشت مسجلاً أدنى مستوياته في 5 أشهر.
ورغم استمرار التحديات الراسخة التي تواجه البلاد مثل تقدم السكان في العمر سريعًا وتراجع إنتاجية قوتها العاملة، وتحول مناخ التوظيف بها بوتيرة سريعة مع بدء شركات كبرى في خفض العمالة، إلا أن معدل البطالة لا يزال معتدلاً إلى حد ما عند 6.1% في أغسطس.
أداء الشركات
زادت حالات إعسار الشركات في ألمانيا بحوالي 30% في الأشهر الستة المنتهية في يونيو على أساس سنوي، لتصل لأعلى مستوياتها في عقد زمني، حسب بيانات شركة تصنيف الائتمان الاستهلاكي “كريديت ريفورم”.
ومن بين الشركات التي تواجه صعوبات مالية شركتا صناعة الكيماويات “أو كيو كيميكالز جي إم بي إتش” و”هيوباخ جي إم بي إتش”، وصانعة البطاريات “فارتا”.
حتى إن البنوك بدأت تشعر بالضائقة الناجمة عن ركود الاقتصاد، ورفعت أكبر المصارف المقرضة في البلاد مخصصات المخاطر البلاد بحوالي 50% في النصف الأول من العام، موضحة أن القروض المقدمة للشركات والمستهلكين المتعثرين كانت جزءًا كبيرًا من السبب.
ذكر “كومرتس بنك” في تقرير نتائج أعمال الربع الثاني الصادر في أغسطس من المحتمل ارتفاع عدد حالات إعسار الشركات في الأشهر المقبلة في ظل مشكلات من بينها ارتفاع تكاليف الاقتراض، لذا عزز المقرض مخصصات الائتمان لعملائه من الشركات بحوالي 25% في النصف الأول من العام.
كيف ارتفع عدد حالات الإعسار في الآونة الأخيرة؟ |
|
|
الفترة الزمنية |
عدد حالات إعسار الشركات |
|
النصف الأول من 2021 |
7.5 |
|
النصف الأول من 2022 |
7.2 |
|
النصف الأول من 2023 |
8.5 |
|
النصف الأول من 2024 |
11.0 |
|
هل انتهت جاذبية “صنع في ألمانيا”؟
بعدما كانت ألمانيا موطنًا لبعض الشركات العالمية الرائدة مثل “أديداس” و”بي إم دبليو” أصبحت الآن في وضع غير موات، على سبيل المثال من بين أكثر 100 شركة على مستوى العالم من حيث القيمة السوقية، ليس هناك سوى شركة ألمانية واحدة وهي مطورة البرمجيات “ساب”.
ونظرًا للوضع الاقتصادي، لجأت شركات دولية إلى تأجيل خططها للتوسع في ألمانيا، منها صانعة أشباه الموصلات “إنتل” التي أرجأت خطة بناء مصنع بقيمة 30 مليار يورو (33.45 مليار دولار) في مدينة ماغديبورغ شرق البلاد لمدة عامين.
حتى الأمريكية “تسلا” التي سخر منها بعض مسؤولي صناعة السيارات الألمان ذات يوم أصبحت قيمتها الحالية أعلى كثيرًا عن كبرى الشركات الألمانية.
تعاني كل من “فولكس فاجن” – جوهرة التاج الصناعي في البلاد – و”بي إم دبليو” بسبب رهانهما المبكر على السيارات الكهربائية، لأن عملية تحول المستهلكين إليها جاءت أبطأ من المتوقعة، وبالطبع لا يمكن دون إغفال تأثير تباطؤ الطلب في الصين.
ولأول مرة في تاريخها الممتد على مدار 87 عامًا، تفكر “فولكس فاجن” في إغلاق مصانعها في ألمانيا مع تكثيف الجهود لتوفير تكاليف بقيمة 10 مليارات يورو على مدى السنوات الثلاثة المقبلة، ما يعني فقدان آلاف الوظائف.
أثار ذلك التحذير من الشركة التي كانت رمز القوة الصناعية الألمانية في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية موجة صدمات في أنحاء البلاد، ويمكن النظر إليه كجزء من التحديات الأوسع نطاقًا التي تواجه اقتصاد ألمانيا.
وساعدت قنبلة “فولكس فاجن” والأخبار السلبية من كبرى الشركات الصناعية الأخرى في البلاد بما يشمل “سيمنز” و”باسف” في تعزيز المزاعم بأن أفضل أيام ألمانيا ربما انتهت وأن الانحدار الاقتصادي أمر لا مفر منه.
ذكر “أندرياس ريس” رئيس قسم السيارات العالمية لدى “كيه بي إم جي”: بالنسبة لشركات صناعة السيارات في ألمانيا التي كانت رائدة السوق التقنية بلا منازع لما يقرب من 140 عامًا، ولم تكن تقلق بشأن المبيعات أو المنافسة، فإن الوضع الحالي غير مألوف بالنسبة لها، وأن الصناعة تواجه أكبر تحول على الإطلاق.
وقد يكون لمشكلات صناعة السيارات تداعيات على الاقتصاد الأوسع نطاقًا ككل، ووصف “ريس” الوضع بأنه إذا عانى قطاع السيارات من السعال فإن الاقتصاد يعاني من الإنفلونزا، ذلك لأن صناعة السيارات لا تشمل كبار اللاعبين فقط، بل الآلاف من الشركات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر عبر البلاد.
آفاق قاتمة
البنك المركزي الألماني حذر مؤخرًا من أن البلاد ربما تكون بالفعل في حالة ركود مع احتمالية انكماش اقتصادها مرة أخرى في الربع السنوي الثالث من هذا العام، بعد انكماشه 0.1% في الأشهر الثلاثة السابقة.
توقع معهد الأبحاث الاقتصادية “دي آي دبليو” الذي يقع مقره في برلين انكماش الناتج المحلي الإجمالي للبلاد 0.1% في العام الحالي، ثم تسارع النمو إلى 0.8% في العام المقبل، لكن النمو لن يعود لاتجاهه المسجل قبل الجائحة في المستقبل المنظور.
ترى “جيرالدين داني كنيدليك” رئيسة التوقعات والسياسة الاقتصادية لدى المعهد السالف الذكر أنه بالإضافة للتباطؤ الاقتصادي، فإن الاقتصاد الألماني يثقل كاهله التغيير الهيكلي، موضحة أن التخلص من الانبعاثات الكربونية، والاتجاه نحو الرقمنة والتغيير الديموغرافي، فضلاً عن المنافسة الأقوى من الشركات الصين، أثار عمليات التكيف الهيكلي التي تثبط آفاق النمو على المدى الطويل للاقتصاد الألماني.
حذر البنك الأوروبي “آي إن جي” من أن الاقتصاد الألماني عالق في حالة ركود، ورسم صورة قاتمة له بعد انكماشه في الربع الثاني من هذا العام، مع وجود علامات قليلة على التحسن الوشيك.
بينما أشارت “فرانزيسكا بالماس” الخبيرة الاقتصادية لدى “كابيتال إيكونوميكس” في مذكرة للعملاء إلى احتمالية انكماش الاقتصاد الألماني مرة أخرى في الربع الثالث من هذا العام، وهو ما يعني ركودًا فنياً آخر -الذي يحدث عند انكماش الاقتصاد لربعين سنويين متتاليين- وقد يؤثر على النمو الأوسع نطاقًا لمنطقة اليورو.
موضحة أن التشاؤم المستمر بين الشركات إضافة إلى علامات الانحدار المستمر بالاقتصاد الألماني يعزز من احتمالية خفض المركزي الأوروبي للفائدة للمرة الثالثة هذا العام في اجتماع أكتوبر.
أما “كليمنس فويست” رئيس معهد “إيفون” فيرى أن الاقتصاد الألماني يتعرض لضغوط متزايدة باستمرار، وأن القطاعات الأساسية بالصناعة الألمانية تعاني.
لذا وفقًا لما ذكره “آي إن جي” يجب أن تكون مشكلات “فولكس فاجن” الأخيرة بمثابة جرس إنذار أخير لصناع السياسات الألمان للبدء في الاستثمار والإصلاح حتى تتمكن البلاد من أن تصبح أكثر جاذبية مرة أخرى.