من بيع الهلع إلى شراء الطمع: خسائر تحولت إلى رماد
كثيرًا ما يظهر تعبير “بيع الهلع” أو “شراء الطمع” في سوق الأسهم، ليشير إلى سيادة اتجاه صاعد أو هابط للسوق -أو لسهم بعينه- بسبب اتجاه غالبية المتعاملين على هذا السهم أو نسبة كبيرة من المتعاملين في السوق للبيع أو للشراء بما يدفع آخرين لتتبعهم خوفًا من تكبد استثماراتهم للخسائر.
وبناء على ذلك ظهر تعبير “القطيع” في سوق الأسهم، بل إن شعارًا ظهر في الأسواق دعم متابعة الأغلبية وهو أن “الاتجاه هو صديقك” أي أنه عليك تغيير اتجاهك باستمرار مع السوق حتى لا تخسر أموالك.
غير أن كثيرين أصبحوا يشككون في بقاء نظرية القطيع في ظل تنامي وعي المستثمرين الجمعي مع الوقت وزيادة مصادر المعلومات، ودخول الذكاء الاصطناعي على خط تحليل بيانات الأسهم فضلا عن دور الوسطاء والمحللين المتزايد.
هل أصبح المستثمرون أكثر وعيًا مع تراكم الخبرات عبر الزمن؟
من ناحية يمكن القول إن المستثمرين أصبحوا أكثر دراية بقواعد السوق وقوانينه -بشكل جمعي- ولعل ذلك ما يؤكده أن أكثر من 95% من انهيارات الأسهم التي حدثت “بلا سبب” وقعت قبل عام 1900 وأن النسبة الباقية حدثت قبل الحربة العالمية الثانية.
وبالطبع لا يوجد انهيار للأسهم بلا سبب مطلقًا ولكن هذا الوصف يشير إلى أنه لم يجر تغيير حقيقي على السوق أو متغير يدفع لانهياره، ولكن موجات من البيع المدفوع إما بالطمع لارتفاع السوق والرغبة في جني الأرباح أو بالخوف من تراجع نسبي فيه أدت لهذا الانهيار دون سبب حقيقي.
وعلى الرغم من هذا، فإن بعض العوائق ما تزال تعترض مثل هذا الوعي ولعل أبرزها أن 80% من المستثمرين ما زالوا يحتفظون بالأسهم المتراجعة لفترات أكبر مما ينبغي بما يؤدي في النهاية لخسارتهم مبالغ أكبر وذلك أملًا في ارتداد الأسهم.
وتكمن خطورة فكرة الاحتفاظ بالأسهم الخاسرة في أنها تؤدي لظهور “موجات” من البيع عند كل مستوى يعتبره البعض مستوى مقاومة سعرية، أي أنهم يعتقدون أن السهم لن يتراجع دونه، وفور كسر السهم لهذا المستوى -هبوطًا- يسارع هؤلاء لبيع السهم بما يقوده إلى المزيد من الهبوط.
نفس العقلية
ويشير الاقتصادي الشهير “أنتوني جاليا” إلى أنه بتحليله لسوق الأسهم الأمريكية والبريطانية منذ نشأتهما فإنه لم يسبق أبدًا للغالبية أن خرجت رابحة من سوق الأسهم، بل وصل الأمر إلى حد خسارة 98% من المتداولين للأموال خلال فترة الكساد الكبير وخروج 2% فقط بأرباح وفقا للتقديرات في هذا الوقت.
وعلى الرغم من ذلك فإن المستثمرين يبقون على نفس العقلية في التعامل في الأسواق، بسبب إغراء الحصول على الدخل السلبي -دخل بلا عمل-، وبالتالي لم تزد نسبة الرابحين أبدًا في السوق على 5% وذلك بسبب إهمال حقيقة أن سوق الأسهم به عمل يتمثل في الدراسة والتحليل والمتابعة المستمرين.
ويمكن أن تتضح ظاهرة القطيع بصورة أكبر مع هؤلاء العاملين على المدى القصير أو المضاربين وليس المستثمرين، والذين تقل نسبة الرابحين بينهم لتصل إلى 1%، حيث إن موجات الهبوط تدفعهم للبيع حفاظًا على رؤوس الأموال وتكشف زيف مستويات الدعم والمقاومة باستمرار مما يصيبهم بالصدمة التي تدفع لبيع الذعر أو الهلع.
تأثير المبتدئين والمستشارين
ويعتبر “ميشيل هارتنت” المحلل المالي في بنك “أوف أمريكا” أن الأزمة الحقيقية التي تؤدي إلى تفاقم ظاهرة “القطيع” في سوق الأسهم هي وجود العديد من “المبتدئين”، وغالبيتهم يغامرون بفوائضهم المالية بما يجعلهم يقبلون على الاستثمارات الأعلى مخاطرة طمعًا في أعلى ربح.
ويُقدر “هارتنت” أن 50% من المتداولين الصغار على الأقل لديهم استعداد لكي ينساقوا مع الأخبار أو التحليلات أو موجات البيع والشراء بشكل مباشر بما يجعلهم يشكلون ضغطًا على مجمل سوق الأسهم أي أنهم يضرون أنفسهم فحسب ولكن يؤذون السوق بأكمله.
ويشير “هارتنت” إلى مستثمر قام بتغيير محفظته الاستثمارية كاملة 4 مرات خلال فترة 7 أشهر فحسب، وذلك وفقًا لما يتردد حول اتجاهات الأسهم في الفترة المقبلة، بما جعله يخسر أكثر من 20% من رأسماله خلال تلك الفترة الوجيزة.
والمشكلة الحقيقية أن بعض مستشاري الاستثمار في سوق الأسهم أيضًا يتأثرون بموجات البيع أو الشراء فيخشى اللوم من عملائه فينصحهم بالبيع أو بالشراء وفقًا لاتجاه السوق الآني وليس للتحليل طويل المدى، وبالتالي يسهم في سيادة منطق القطيع.
وإذا حدث وتجنب المستشارون ذلك الأمر وقدموا نصائح جيدة تتعلق بمستقبل الأسهم وليس بالاتجاه الحالي، فإنه يصعب على كثير من مستثمري الأسهم الاستماع لصوت العقل دون معرفة كافية بقواعد التحليل الأساسي للأسهم، بينما يجدون أسهمًا ترتفع وينصحهم وكيلهم بعدم شرائها على سبيل المثال.
مصادر معلومات متنوعة ولكن
يمكن القول إن التنوع في مصادر المعلومات من ضمن الأسباب التي تساعد على تجنيب المستثمرين ظاهرة القطيع في سوق الأسهم، حيث لم يعد المستثمرون يعتمدون على مصدر واحد للمعلومات، بل يتوفر لديهم العديد من المصادر المتنوعة، مما يساعدهم على تقييم المعلومات بشكل أفضل.
وفي المقابل، فهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي على غيرها، بإشارة أكثر من 85% من المتداولين في السوق الأمريكي إلى أنهم يعتمدونها كمصدر رئيسي للمعلومات والتحليلات تعيد ظاهرة القطيع إلى الواجهة بصورة كبيرة.
وتتضح هذه الظاهرة أكثر في سوق العملات الرقمية مثلا، حيث تشير الإحصاءات إلى أن قرابة 93% من المتعاملين في السوقين الأمريكي والهندي -وهما الأكبر عالميًا- يحصلون على معلوماتهم من خلال 8 مواقع إلكترونية فحسب بما يجعل لها تأثيرًا كبيرًا على تحريك الأسواق فقط بنشر توقعات تفيد باتجاه معين (وتزداد تلك القدرة حال وجود تنسيق ما بين تلك الجهات).
وتتفاقم خطورة هذا الأمر مع أن أكثر من 90% من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تكون بلا إسناد صحيح لمصادر الخبر الأصلية، بما يوفر بيئة خصبة لظهور أخبار كاذبة كثيرة ويدفع بعض الذين يعتمدون على وسائل التواصل كمصدر للأخبار إلى الانجراف في اتجاهات خاطئة بشكل جماعي.
مع متغيرات أكثر.. ما الحل؟
وهناك عامل آخر يشجع على استمرار ظاهرة القطيع في سوق الأسهم ويتعلق بدرجة التعقيد التي يتسم بها سوق الأسهم اليوم عما كان عليه قبل عقود، وهي متغيرات مثل الذكاء الاصطناعي والوضع البيئي والعلاقات الجيوسياسية وتأثيرات اختلالات سلاسل التوريد على عمل الشركات.
ويمكن القول إن المتغيرات في سوق الأسهم تضاعفت 150 مرة منذ بداية الألفية الثالثة حتى 2023 مع تعدد صدور البيانات من الشركات المختلفة وتعدد الشركات العاملة في أكثر من مجال، ومصادر التحليل وصفحات التواصل الاجتماعي المتخصصة.
ولعل الحل الرئيس في مواجهة هذا الأمر هو التبسيط والعودة لأسس الشركات ودراسة قوائمها المالية، فلتجنب أخطاء المتداولين المبتدئين، وضع المتداول الشهير “جيم روجرز” خطة واضحة، حيث يرى أن التمسك بالآراء الثابتة والخوف من الخسائر هما أكبر عائقين أمام النجاح في الاستثمار، بعد أن كلفته هذه العيوب خسائر باهظة في بداية مسيرته.
ولذلك قرر روجرز اتباع نهج مختلف، إذ ابتعد عن المتابعة المستمرة لسوق الأسهم التي تثير القلق، وفضل إعادة تقييم قراراته الاستثمارية بهدوء عندما تنخفض الأسعار.
هذه الاستراتيجية البسيطة، المتمثلة في الهدوء وتحليل الوضع بدقة، أتت بثمارها، فقد حقق روجرز عوائد استثنائية بلغت 4200% خلال عقد من الزمن، ليصبح أحد أشهر المستثمرين في العالم، وليضع وسيلة ناجعة للتخلص من تأثير “القطيع” على المتداول في سوق الأسهم.