الشركاتالاقتصادية

آبل وأخ الأكبر: من تحرير الأسواق إلى السيطرة الشاملة

خلال حدث “سوبر بول” عام 1984 حيث كانت تتجه أنظار الأمريكيين إلى أحد أكثر المنافسات الرياضية شعبية لديهم، تفاجأ ملايين المشجعين بإعلان غريب لكنه مثير للفضول.

أظهر الإعلان “الأخ الأكبر ” – شخصية خيالية وردت في رواية “1984” للكاتب الإنجليزي “جورج أوريل” والتي تجسد الطغيان والتسلط – يتحدث عبر شاشة ضخمة عن “مجد الاتحاد” و”الأيديولوجية الخالصة”.

في ذات الوقت، كانت هناك فتاة تحمل مطرقة وتركض نحو الشاشة بين جمع من الأشخاص حليقي الرؤوس يرتدون زيًا موحدًا ويشاهدون ويستمعون بإنصات لكلمات “الأخ الأكبر”، قبل أن تدمر الفتاة الشاشة لتخرج منها عاصفة جليدية تجمد جميع المشاهدين.

7d1bc7b9 1d08 45c8 97b9 f6c54847b292 Detafour

في نهاية الإعلان، يقول المعلق: “في الرابع والعشرين من يناير، ستكشف “آبل” عن حاسوب “ماكينتوش” وسترون لماذا سيكون عام 1984 مختلفًا عن أحداث 1984 (يقصد الرواية)”.

هذا الإعلان عن أجهزة “ماك”، يعد أحد أشهر الإعلانات التجارية على الإطلاق، حيث حاول صنّاعه إعادة تصوير أجهزة الحواسيب باعتبارها جزءاً من هوية المستخدم وليست مجرد أدوات عمل مملة، فيما كان ينظر “ستيف جوبز” المؤسس المشارك لـ”آبل”، ومديروه، إلى أنفسهم باعتبارهم “متمردين وفنانين”.

وكانت الخطة “الوردية” هي أن تصبح أجهزة “ماك”، منتجات تضع التكنولوجيا المتقدمة في متناول أيدي المواطنين العاديين وليس فقط الشركات والحكومات، وبعد أربعة عقود من هذا الإعلان، قد يكون من الإنصاف القول إن “آبل” ساعدت بالفعل في إضفاء الطابع الديمقراطي على المعلومات واستخدام التكنولوجيا.

لكن مع ذلك، فقدت صانعة “أيفون” دورها كبطل متمرد على طغيان “الإمبراطورية الشريرة”، وأصبحت الآن تستخدم التكنولوجيا لترسيخ قوتها وهيمنتها، في حين استبدلت صورة “الأخ الأكبر” برئيسها الحالي “تيم كوك”.

وحش لا يروض

– تناهز القيمة السوقية لـ”آبل” 3.5 تريليون دولار، أي أكثر من أي شركة أخرى في العالم، وتبلغ إيراداتها لعام 2023 قرابة 400 مليار دولار، ما يجعلها بحجم اقتصاد دولة مثل الدنمارك أو الفلبين.

– رغم أن معظم الأعمال تدور حول بيع أجهزة “أيفون”، فإنها نمت على نطاق أوسع، وبلغت مبيعات “آبل” من الخدمات الرقمية في الربع الأخير 24.2 مليار دولار، أي أكثر من الإيرادات المجمعة لشركات “أدوبي” و”إير بي إن بي” و”نتفليكس” “وبالانتير” و”سبوتيفاي” و”زووم” و”إكس”.

– من خلال متجر التطبيقات الخاص بها، تسيطر “آبل” بإحكام على منصات هائلة للاتصالات الرقمية، والتمويل عبر الجوال، والشبكات الاجتماعية، والموسيقى، والأفلام، والنقل، والأخبار، والرياضة، وكل شيء تقريبًا.

– إن هذا النظام البيئي للبرمجيات، والذي يشبه نسخة “آبل” من”حديقة الأيديولوجية الخالصة” التي تحدث عنها “الأخ الأكبر”، لا يمكن الوصول إليه إلا من قبل أولئك المبرمجين الذين يمتثلون لسياسات المتجر الصارمة، ومعايير المحتوى، والرسوم التي تفرضها الشركة.

– عندما تمر الأموال عبر هذا النظام، تحصل “آبل” على ما يصل إلى 30%، كما تحصل أيضًا على حصة صغيرة من معاملات الدفع التي تتم باستخدام أجهزة “أيفون” أو ساعاتها الذكية.

– بالنسبة للشركات، لا توجد طريقة للتهرب من دفع ما أصبح يُعرف باسم “ضريبة آبل”، ويرجع هذا جزئيًا إلى ولاء عملاء صانعة “أيفون”، وأيضًا لأن هناك متجر تطبيقات آخر للجوالات الذكية التي تعمل بنظام “أندرويد” والذي يفرض رسومًا وقيودًا مماثلة.

– حتى “ألفابت” تدفع لشركة “آبل”، وتحول جزءًا من عائدات الإعلانات التي تولدها عبر”أيفون” كجزء من صفقة أبقت “جوجل” مزود البحث الرئيسي على متصفح الويب لأجهزة “أيفون”، والتي بلغت قيمتها 20 مليار دولار سنويًا.

نموذج الهيمنة المطلقة

– في الماضي، كان شراء حاسوب أو جوال يعني دفع ثمن الجهاز الذي يرغب المستهلك في امتلاكه بالكامل مرة واحدة، أما الآن فشراء الإلكترونيات أصبح باهظ الثمن، فمثلًا يدفع المستهلك ألف دولار لشراء “أيفون”، ثم ينفق مئات الدولارات على الخدمات التي تعد اختيارية لكنها تبدو ضرورية.

– هناك مثلًا “آبل كير بلس” للتأمين على مكونات الأجهزة ضد الحوادث، وخدمة “آي كلود” لتخزين الملفات، إلى جانب خدمات البث الموسيقي وحصص اللياقة البدنية والبرامج التلفزيونية وألعاب الفيديو، وجميعها تحتاج إلى اشتراك.

– إن المستثمرين لا يجدون مشكلة في هذا النوع من الهيمنة، كما يتضح من ارتفاع سعر سهم “آبل” على مدى العقد الماضي، لكن من ناحية أخرى، لدى الجهات التنظيمية بعض الأسئلة، وربما المخاوف المنطقية.

a18354e9 3d47 434c 93ec d73c4defffea Detafour

– رفعت وزارة العدل الأمريكية دعوى لمكافحة الاحتكار تتهم “آبل” بممارسات معادية للمنافسة أدت إلى “حبس” المستهلكين والشركاء في نظامها البيئي، مع حصول الشركة على أكبر قدر ممكن من المال من هاتين المجموعتين.

– اكتسبت ضغوط المنظمين الأمريكيين زخمًا أكبر في أغسطس، عندما حكم قاضٍ فيدرالي ضد جوجل في قضية منفصلة تتعلق باتفاقية محرك البحث مع “آبل”، ما أثار تساؤلات حول كيفية النظر إلى سلوك أنجح شركات التكنولوجيا في العالم.

– أنكرت “آبل” الادعاءات بحقها، وقالت إن نجاحها يأتي من تطوير منتجات مبتكرة وسهلة الاستخدام وممتعة، خاصة عندما تكون منتجاتها مجتمعة لدى المستخدم.

– قال متحدث بإسم الشركة في بيان: “نحن نحمل نفس الروح الرائدة والمغامرة في هذه المهمة التي كانت لدينا دائمًا، ونصنع فقط المنتجات التي تمكّن المستهلك وتثري حياته، ويختار المستهلكون منتجاتنا لأنهم يحبونها، ويثقون بها، ويستخدمونها كل يوم”.

البطل والطاغية: تبادل الأدوار

– إن شكوى وزارة العدل الأمريكية طويلة ومعقدة، لكنها تتلخص في نقطة مألوفة لمنتقدي الشركة وهي “الاحتكار”، أو كما قال أحد المديرين التنفيذيين السابقين، والذي تحدث إلى “بلومبرج” بشرط عدم الكشف عن هويته “خوفاً من الانتقام”: “لقد بدأت “آبل” تتحول إلى الأخ الأكبر”.

– من التحولات المثيرة للتعجب أن الشركة التي صورت نفسها كلاعب يحقق التوازن الذي أخلت به الشركات الكبرى، وكمدافع عن حرية البيانات وتمكين المستهلك البسيط من الوصول إلى التقنيات المتقدمة، هي ذاتها تمارس الآن “تكتيكات أوريل” التي سخرت منها قبل 40 عامًا.

– تواجه الشركة نزاعات مع قائمة متزايدة من الشركاء، بما في ذلك البنوك وصناع الأفلام وشركات تصنيع السيارات ومطورو التطبيقات والعملاء الذين بدأوا يشكون في أن “آبل” لا تزال القوة الإبداعية التي وقعوا في غرامها منذ عقود.

ef0c66ac b38b 4e79 b1e6 fccf32af4cea Detafour

– في أوائل العقد الأول من القرن الجاري، ومع تزايد شعبية منتجاتها، أحبطت “آبل” محاولات شركات أخرى لتطوير متاجر رقمية خاصة بها لبيع الموسيقى مباشرة إلى جهاز “أيبود”، وهيمنت على مبيعات الأغاني عبر “آي تيونز”، وكانت تحصل على 30% من المبيعات.

– بدءًا من عام 2008، كان على منشئي البرامج إرسال كل تطبيق جوال (أو تحديث) إلى فريق مراجعة “آبل” قبل أن يتمكنوا من طرحه لمستخدمي “أيفون”، وهي العملية التي اعتبرتها الشركة مفتاحًا للحفاظ على جودة الجهاز وأمانه.

– لكن مراجعي تطبيقات عملوا لدى “آبل” في تلك الفترة، قالوا إن لوائح الشركة بدت “مطبقة بشكل تعسفي ومتلاعب به لتناسب مصالحها المالية”، فيما قالت الشركة نفسها إنها خفضت العوائق أمام المطورين بشكل كبير للوصول إلى المستهلكين وكسب المال.

– بمرور الوقت أصبحت القواعد أكثر غرابة، مثل منع طرح تطبيقات معينة بحجة أن هناك “وفرة منها”، ووصفت الشركة بعض التطبيقات بـ “المعقدة” أو “لا ترقى إلى مستوى الجودة العالية”، وحظرت طرق الدفع المبتكرة (يمكن أن تسمح للمطورين بتجنب الرسوم التي تفرضها).

إرث جوبز

– مع وفاة “جوبز” عام 2011، كان متجر التطبيقات يشكل اقتصاداً ضخماً، حيث أدرج به ما يزيد على 500 ألف تطبيق لجهازي “أيفون” و”أيباد”، وفي ذلك العام، باعت “آبل” 72 مليون جوال و32 مليون حاسوب لوحي، وارتفعت قيمتها السوقية إلى 400 مليار دولار (ضعفي مايكروسوفت).

– في الماضي، كانت حواسيب “آبل” هي الأضعف، وكان جمهورها الرئيسي هو الأطفال ومصممي الجرافيك و”كارهي بيل جيتس”، حتى إنه قبل 5 سنوات من وفاة “جوبز” بلغت قيمة “مايكروسوفت” أربعة أمثال “آبل”.

– عند اختيار خليفة “جوبز”، كان التركيز ينصب على تأمين هذه المكاسب، لذلك وقع الاختيار على الرئيس الحالي “تيم كوك”، رغم أنه لم يكن خبيراً في التصميم، ولم يُنظر إليه باعتباره مهتماً كثيراً بالإبداع.

– كان “كوك” متخصصاً في العمليات وخفض التكاليف، والمسؤول عن سلسلة توريد الأجهزة في الشركة، وهو الدور الذي تدرب عليه في “كومباك”، وفي “آي بي إم”، اللاعب الرئيسي في مجال الحوسبة والتي وصفتها “آبل” بشكل ضمني بأنها “الأخ الأكبر” في إعلان عام 1984.

– بالنسبة لـ “جوبز” ومساعديه، حقق “كوك” نتائج عبقرية لحد “المعجزات”، حيث خفض المخزون بشكل حاد وقضى على المخاطر المكلفة المتمثلة في الإفراط في الإنتاج، وحول سلسلة توريد “آبل” إلى قوة كبيرة في التصنيع حسب الطلب تنافس “دل”، والتي كانت المعيار الذهبي للكفاءة آنذاك.

6bd91b0b 79ab 4de8 a8ef 4eede9252ac4 Detafour

ترسيخ نموذج الأخ الأكبر

– نجح أيضًا “كوك” في الاتفاق مع “فوكسكون” لتجميع أجهزة الشركة في الصين مقابل أموال أقل بكثير من أي مكان آخر، وفي حين جنت “آبل” ثروة طائلة بفضل هذا النموذج، فإن مورديها عانوا من اضطرابات حادة، حتى أن بعض العمال انتحروا في 2010.

– في عام 2017، أخبرت “آبل” شركة “إمجينيشن تكنولوجيز- Imagination Technologies“، أنها تطور نسختها الخاصة من وحدة معالجة الرسوميات لجهاز “أيفون”، لكن المورد اتهمها بالسرقة وانتهاك براءة الاختراع، وفي النهاية وافقت “آبل” على صفقة ترخيص، لكن قيمة “إمجينيشن” كانت قد انهارت وبيعت لمستثمرين صينيين.

– توصلت وزارة العدل في شكواهاإلى أن الأجهزة والبرامج ومتجر التطبيقات المتكامل من “آبل”، تقمع المنافسة من خلال جعل الانتقال إلى بدائل منافسة أمرًا شبه مستحيل، ففكرة التحول من”آي أو إس” إلى”أندرويد” مع الاحتفاظ بالبيانات الشخصية والمحتوى الذي اشتراه المستخدم أمر صعب.

– في حين ألغت “آبل” في السنوات الأخيرة اتفاقيات شراكة -مثل واحدة مع “إنتل”- وبرامج مثل تطوير مركبة كهربائية تواجه ضغوطًا تنظيمية، لكن من الصعب تخيل المستقبل دون شركة كافحت لاكتساب “سلطة أخلاقية” في عالم البزنس.

– مع ذلك، فإنه بمرور السنوات وتوسع الأعمال، يبدو أنها فقدت جزءًا من هذه السلطة المكتسبة، بسبب سلوكها مع الشركاء والعملاء الحاليين، والذي لو طبقته في البداية ربما ما ظلت قائمة حتى الآن، على الأقل من وجهة نظر بعض المراقبين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى