لماذا تتاجر الدول بعضها مع بعض؟
– إذا كان هناك إجماع بين خبراء الاقتصاد، فهو أن التبادل التجاري بين الأمم يساهم بشكل كبير في الرخاء العالمي.
– ورغم هذه الحقيقة، تبقى التجارة الدولية من أشد القضايا الاقتصادية إثارة للجدل، سواء على الصعيد الداخلي للدول أو في العلاقات بين الحكومات.
– تعتبر التجارة الدولية محركاً رئيسياً للنمو الاقتصادي، حيث تسمح للدول بالتركيز على إنتاج السلع والخدمات التي تتمتع فيها بميزة تنافسية.
– وعندما تشتري دولة ما منتجات من دولة أخرى، فإنها تحصل على سلع أو خدمات قد لا تستطيع إنتاجها بنفس الكفاءة أو التكلفة، مما يزيد من خيارات المستهلكين ويحسن من مستوى المعيشة.
– وفي المقابل، تحصل الدولة المصدرة على العملة الأجنبية التي يمكنها استخدامها لشراء السلع والخدمات التي تحتاجها.
– ورغم أن التجارة الدولية تعود بالنفع على المجتمعات بوجه عام، إلا أنه ليس بالضرورة أن ينعكس هذا النفع إيجابًا على كل فرد أو مؤسسة على حدة.
– فعندما تختار شركة ما منتجًا مستوردًا لكونه أقل تكلفة، فإنها تحقق مكسبًا على حساب المنتج المحلي الذي قد يكون أعلى سعرًا.
– ومع ذلك، فإن فائدة المشتري من هذا الاختيار غالبًا ما تفوق الخسارة التي يتحملها المنتج المحلي، وبشكل عام، يسهم الاستيراد في تحسين الأوضاع الاقتصادية العالمية عندما تكون المنتجات المستوردة أكثر كفاءة وأقل تكلفة من مثيلاتها المحلية.
– الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو الحالات التي يتم فيها تجاهل التكاليف الاجتماعية للإنتاج، مثل التلوث، في حساب التكلفة الإجمالية للمنتج المستورد.
– وفي هذا السياق، أشار المؤرخ البريطاني توماس ماكولي إلى معضلة مثيرة للاهتمام، وهي أن التجارة الحرة، التي يعتبرها الاقتصاديون من أعظم الإنجازات التي يمكن أن تحققها الحكومات، كانت تواجه معارضة شعبية واسعة في معظم البلدان.
– فبعد أن وضع رواد الاقتصاد مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو الأسس النظرية للتجارة الحرة، كان ماكولي يراقب الصراع بين هذه النظرية وبين الواقع المعاش، حيث كانت الحكومات تجد صعوبة في تطبيق مفهوم التجارة الحرة على الرغم من فوائده العديدة
– وبعد قرنين من الزمان لا تزال المناقشات محتدمة حول التجارة.
لماذا تتاجر البلدان
– تشير الدراسات الحديثة إلى أن زيادة التجارة بين الدول لا تؤدي فقط إلى تغييرات جوهرية بين الصناعات المختلفة، بل تمتد آثارها لتشمل تغييرات داخل كل صناعة على حدة.
– فمع تزايد المنافسة من الشركات الأجنبية، تتعرض الأرباح المحلية لضغوط متزايدة، مما يدفع الشركات الأقل كفاءة إلى الخروج من السوق، بينما تتيح هذه الظروف للشركات الأكثر كفاءة للتوسع والنمو.
– ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن دخول شركات جديدة إلى السوق يحفز على تبادل التقنيات الحديثة وإدخال منتجات مبتكرة.
– والأهم من ذلك، أن التجارة الدولية تتيح للمستهلكين خيارات أوسع وأكثر تنوعًا من السلع والخدمات، مما يزيد من رفاهيتهم.
– كذلك تساهم الكفاءة التجارية في تعزيز الاستثمار، وذلك بفضل التنوع الكبير في المدخلات المتاحة للشركات. فالتنوع في المدخلات، مثل العدسات البصرية، يفتح آفاقًا جديدة للإنتاج ويُسهم في تطوير صناعات جديدة.
– إن وصول الشركات إلى مجموعة واسعة من المدخلات، كالعدسات البصرية، يُعزز من كفاءتها الإنتاجية ويُساهم في تحقيق نمو اقتصادي مستدام.
– تشير الدراسات التي حاولت قياس تأثير التجارة بشكل أكثر شمولاً، بحيث تشمل عوامل مثل نقل التكنولوجيا وتوسيع نطاق المنتجات، إلى أن فوائد تحرير التجارة تفوق بكثير التقديرات التقليدية.
التجارة: مكاسب عالمية وتحديات محلية
– تسهم التجارة بشكل كبير في تعزيز الكفاءة الاقتصادية العالمية، حيث توجه الموارد نحو استخداماتها الأمثل، مما ينعكس إيجاباً على رفاهية الشعوب، إلا أن هذا ليس سوى جانب واحد من الصورة.
– لا شك أن التجارة، رغم فوائدها الجمة، قد تؤدي إلى اضطرابات في بعض الشركات والصناعات التي تعجز عن مواكبة المنافسة الشديدة، غالبًا ما تلجأ هذه الشركات وعمالها إلى الضغط من أجل تقييد التجارة وحمايتها.
– تتنوع السياسات التجارية بين الدول، إذ تسعى الحكومات لفرض قيود على التجارة الخارجية، مثل الرسوم الجمركية والحصص، بهدف حماية صناعاتها المحلية ورفع أسعار المنتجات المستوردة، وقد تلجأ الشركات المصنعة أحيانًا إلى تقليل صادرات المواد الخام لخفض تكاليف إنتاجها.
– على الجانب الآخر، تمتد فوائد التجارة لتشمل شرائح واسعة من المجتمع، إلا أن الكثيرين لا يدركون الكيفية التي تساهم بها التجارة في تحسين حياتهم المعيشية.
السياسات التجارية
– أدت الإصلاحات الاقتصادية العالمية منذ الحرب العالمية الثانية إلى تخفيف كبير من القيود التجارية، إلا أن السياسات الحمائية لا تزال قائمة، لا سيّما في قطاعات مثل الزراعة والتصنيع، وفي البلدان النامية.
– تؤثر الحواجز التجارية بصورة غير متساوية على الدول، حيث تتحمل الدول النامية العبء الأكبر، فصادرات هذه الدول، التي تعتمد بشكل كبير على المنتجات التي تتطلب عمالة كثيفة ومنخفضة التكنولوجيا، تواجه حماية شديدة في الأسواق المتقدمة.
– تظهر الولايات المتحدة مثالاً صارخًا على هذا التفاوت، حيث تحصل على عائدات جمركية أعلى بكثير من وارداتها من بلدان مثل بنغلاديش مقارنة بالواردات من الدول الأوروبية الكبرى، وهذا يحدث حتى عندما تخضع المنتجات ذاتها من بنغلاديش لنفس التعريفات الجمركية أو أقل منها.
– تشير دراسة للبنك الدولي إلى أن الجهات المُصدرة من الدول النامية تواجه حواجز تجارية أعلى بنسبة 50% في المتوسط مقارنة بالدول الصناعية الكبرى.
– تخوض الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، وهي المنظمة الدولية التي تشرف على التجارة العالمية، مفاوضات شاقة منذ عام 2001 في الدوحة بقطر، بهدف تخفيف وتسوية العقبات التي تضعها الحكومات أمام التجارة الدولية.
تشمل هذه المفاوضات مجموعة واسعة من القضايا الحساسة سياسياً، مثل:
– الزراعة: إلغاء الدعم الحكومي المقدم للصادرات الزراعية، وتقليص الدعم المقدم للمزارعين المحليين، وخفض الرسوم الجمركية التي تفرضها الدول المتقدمة على المنتجات الزراعية والصناعية
– الخدمات: تخفيف القيود المفروضة على التجارة والاستثمار في الخدمات
– قواعد التجارة: وضع قواعد جديدة ومتفق عليها في مجالات مثل دعم صيد الأسماك، ومكافحة بيع السلع بأسعار أقل من سعر السوق المحلي (الإغراق)، وتبسيط إجراءات الجمارك وتسهيل التجارة.
– إذا نجحت جولة الدوحة، فمن المتوقع أن تحقق فوائد اقتصادية عالمية كبيرة تقدر بمئات المليارات من الدولارات سنوياً.
– ورغم الجهود التي بذلتها بعض الجماعات لعرقلة الاتفاق، إلا أن التركيز على المصلحة العامة، مع توفير الدعم اللازم للفئات المتضررة، سيسهم في بناء نظام تجاري أكثر عدلاً واستدامة .