ظاهرة العمل غير المرئي وتأثيرها على صحتنا النفسية
– يُشير مصطلح العمل غير المرئي (invisible work) إلى تلك المهام والأنشطة التي يقوم بها الأفراد، غالباً دون تقدير مالي أو معنوي، لضمان سير الحياة اليومية بسلاسة.
– وتشمل هذه الأعمال نطاقًا واسعًا من المهام، بدءًا من الأعمال المنزلية مثل التنظيف والغسيل ورعاية الأطفال، وصولاً إلى المهام غير المعترف بها في مكان العمل مثل مساعدة الزملاء أو إدارة الاجتماعات.
– يُعدّ هذا النوع من العمل ضروريًا لا غنى عنه لاستمرار الحياة اليومية، لكنه غالباً ما يُهمل أو يُقلل من قيمته.
– ونظرًا لطبيعته غير المرئية، غالباً ما يتم تجاهل الجهد المبذول في إنجازه، مما قد يُؤدي إلى مشاعر الإرهاق والقلق والاكتئاب، تمامًا مثل الإرهاق الناتج عن العمل خارج المنزل.
– في عام 2019، أدرج التصنيف الدولي للأمراض في نسخته العاشرة “الإرهاق” رسميًا كحالة صحية خطيرة تنجم عن “الإجهاد المزمن في مكان العمل دون معالجة فعّالة”.
– وفي خطوة هامة، أوضح الدليل المرجعي أن “الإرهاق” يقتصر على “سياق العمل” ولا ينطبق على تجارب في مجالات أخرى من الحياة.
– لكن هذا التصنيف يغفل جوانب هامة، حيث أثبتت الدراسات أن العمل غير الرسمي في المنزل، والذي غالباً ما يكون عملاً عاطفيًا غير معترف به، يُسبب الإرهاق أيضًا.
– لذلك، يُنصح أخصائيو الرعاية الصحية بتوسيع مفهوم الإرهاق ليتجاوز مكان العمل ويشمل تأثيرات أدوار رعاية الآخرين غير المدفوعة الأجر في المنزل.
– في وقت سابق من هذا العام، سلطت شبكة الرعاية الصحية “كايزر بيرماننت” الضوء على مشكلةٍ مُهملة تُعرف بـ “العبء الذهني الثقيل” أو “العمل العقلي”.
– وأوضحت الشبكة أنّ هذا المصطلح يُشير إلى “العمل غير المُدفوع الأجر والذي لا يُرى عادةً، والمتعلق بإدارة المنزل ورعاية أفراد الأسرة أو الأحباء”.
– ووضّحت الشبكة كذلك أنّ “العبء الذهني” يُمكن أن يُؤدي بمرور الوقت إلى “إجهادٍ شديدٍ وعلاقاتٍ مُتوترةٍ وحتى أمراضٍ مُزمنةٍ”.
– إنّ العمل غير المرئي هذا موجودٌ في كل مكانٍ من حولنا، وهو ضروري للغاية لكي يعمل مجتمعنا بشكلٍ صحيح.
– إلا أنّ مجتمعنا، للأسف، لم يُقدر “العمل المنزلي” أو “إدارة شؤون الحياة” أو “العمل غير المُدفوع الأجر” في الوظائف، بالقيمة الاقتصادية التي يستحقها.
– ففي كثيرٍ من الأحيان، يُطلب من الناس القيام بمهامٍ مُهمةٍ مثل تنظيم جدول الموظفين بما يشمل الأنشطة اللامنهجية والمواعيد الطبية وأعياد الميلاد، أو توجيه الموظفين الجدد، دون أن يُحظوا بالتقدير الكافي – أو حتى دون الحصول على أيّ راتبٍ مقابل ذلك.
– إنّ القيام بهذه المهام التي غالبًا ما تكون أساسيةً لعمل المجتمع يُسببُ مستوياتٍ جديدةً من القلق والتوتر، وبالتالي، فإنّه من الضروريّ أن يعترف مجتمعنا بهذا الواقع بدلاً من تجاهله.
– وفي السياق ذاته، تناولت مجلة “نيوزويك” مؤخرًا وباءً هامًا يُهدد صحة ملايين الآباء حول العالم، ألا وهو “الاحتراق الأبوي”.
– حيث تناولت المجلة نتائج دراسة حديثة أجرتها كلية التمريض بجامعة ولاية أوهايو، والتي استخدمت “مقياس إرهاق الوالدين العاملين” بالإضافة إلى تقييم ذاتي للمشاركين.
– أظهرت الدراسة أنّ ثقل محاولة مواءمة توقعات المجتمع المُجحفة مع متطلبات العمل في آن واحد يخلق عبئًا هائلاً على عاتق الوالدين، لاسيما النساء، ممّا يُهدد صحتهم العقلية ويُعيق قدرتهم على الاستمرار.
– يقع عبء “الاحتراق الأبوي” بشكلٍ غير متناسب على النساء، حيث أظهر تحليل حديث لبيانات أكثر من 70 ألف شخص شملتهم دراساتٌ عالمية، أنّ المرأة تُخصص في المتوسط 4.5 ساعة يوميًا لرعاية أسرتها ومنزلها، بينما يُخصص الرجل 2.8 ساعة فقط لهذه المهام.
– وذلك يعني أنّ النساء يُنجزن 75% من أعمال الرعاية غير المُدفوعة، والتي تشمل الطهي والتنظيف والتنظيم والجدولة ورعاية الأطفال ورعاية المسنين.
– من ناحية أخرى، أشار باحثون في دراسة نُشرت في مجلة “ذا لانسيت” الطبية إلى أنّ “الآثار الصحية والنفسية للعمل غير المُدفوع لم تحظَ بالاهتمام الكافي”، مُؤكّدين أنّ “عدم المساواة في توزيع مهام الرعاية غير المُدفوعة يُعرّض النساء لخطرٍ أكبر للإصابة بتدهور الصحة العقلية مقارنةً بالرجال”.
نظرية إجهاد الدور وتأثيرها على الصحة العقلية
– أرجع الباحثون التأثير السلبي للعمل غير المرئي على الصحة العقلية إلى ما يُعرف باسم “نظرية إجهاد الدور”، وتشمل هذه النظرية ثلاثة جوانب رئيسية:
– صراع الأدوار: ينشأ هذا الصراع عندما يواجه الفرد توقعات متضاربة من قبل أدواره المختلفة، مثل العمل والعائلة والأصدقاء.
– عبء الأدوار الزائد: يشير إلى شعور الفرد بأن لديه مسؤوليات أكثر مما يستطيع تحمله، مما قد يؤدي إلى الشعور بالإرهاق.
– ضيق الوقت: يُشير إلى الشعور بأن الوقت غير كافٍ للوفاء بجميع المتطلبات، مما قد يؤدي إلى التوتر والقلق.
– تُساهم هذه العوامل مجتمعة في مسارات مرتبطة بالتوتر تؤدي إلى الاكتئاب والقلق والضيق النفسي.
كيف يمكننا إضفاء قيمة على العمل غير المرئي؟
– في كندا، طالبت عدة مجموعات مؤخرًا حكومة كيبيك بإعلان يوم رسمي باسم “اليوم الوطني للأعمال غير المرئية” لتوعية الناس بالآثار المهمة التي يترتب عليها العمل غير المرئي.
– ومن الأهمية بمكان إطلاق نقاش مفتوح حول هذا الموضوع مع أصحاب العمل والأصدقاء وأفراد العائلة، كما يجب علينا تثقيف أنفسنا ونشر الوعي حول هذه القضية، والسعي جاهدين لتحقيق مساواة أفضل داخل بيوتنا.
– ويهدف هذا الدافع لفتح الحوار إلى إحداث تغيير يسمح للرجال والنساء بالمشاركة بشكل عادل في العمل غير المرئي الذي لا غنى عنه للحفاظ على دورة الحياة الأسرية.
– وفي سياق متصل، أشارت الإذاعة الوطنية الأمريكية (NPR) مؤخرًا إلى أن تراجع معدلات المواليد في اليابان يُمثل “حالة طوارئ وطنية”.
– يرى بعض المختصين أنّ الحل يكمن في “إعادة تعريف مفهوم الأبوة” ليشمل التخلص من “العمل غير المرئي” الذي يشعر العديد من الرجال بالالتزام به، مثل قضاء الوقت في لقاءات مع الزملاء بعد العمل.
– كما يتضمن هذا التغيير مشاركة الرجال بشكل أكبر في الأعمال المنزلية، مثل غسل الأطباق واصطحاب الأطفال إلى المتنزهات، وهي مهام كان الكثير من الرجال يعتذرون عن القيام بها في الماضي.
دور الشركات في التخفيف من إرهاق العمل غير المرئي
– تضطلع الشركات بدور هام في التخفيف من إرهاق العمل غير المرئي الذي يقع على عاتق موظفيها، وقد ارتبطت ثقافة مكان العمل على مر السنين ارتباطًا وثيقًا بتحسين مشاركة الموظفين وسعادتهم وإنتاجيتهم، مما ينعكس إيجابًا على نجاح المنظمة ككل.
– وتشمل الأنشطة التي تساهم في تعزيز شعور الموظفين بالانتماء والترابط أنشطة مثل: التوجيه، والرعاية المهنية، واحتفالات أعياد الميلاد، والتدريب والتطوير، ومجموعات موارد الموظفين، ولجان التثقيف.
– ومن خلال إدراك أهمية العمل غير المرئي وتقديره، يمكننا المضي قدمًا نحو خلق مجتمع أكثر عدلاً وإنصافًا، حيث يشارك الجميع في إنجاز المهام الضرورية لاستمرار الحياة اليومية.