عودة المال الرخيص: نافذة أمل أم تحدٍ جديد للاقتصادات الناشئة؟

بين تقلبات الأسواق العالمية وضغوط التضخم خلال عام 2022، واجهت شركة نوسانتارا فودز الإندونيسية، المتخصصة في تصنيع وتعبئة الزيوت النباتية والمنتجات الغذائية الأساسية، أزمة مالية حادة لم تشهدها من قبل.
مع ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا، تحولت القروض قصيرة الأجل، التي كانت تُعد مصدر تمويل منخفض التكلفة، إلى عبء مالي يهدد قدرة الشركة على شراء المواد الخام وتوسيع خطوط الإنتاج.
هذا الوضع دفع الإدارة إلى إعادة النظر في خطط التوسع، وتجميد التوظيف، وتقليص الإنتاج في فترات معينة، وهو سيناريو يعيشه آلاف الشركات الصغيرة والمتوسطة في إندونيسيا، التي تواجه صعوبة في تأمين تمويل ميسر وسط تشدد البنوك وارتفاع تكلفة خدمة الديون.
هذه الشركات تشكل أكثر من نصف القوى العاملة في البلاد، ما يجعل أي تشديد نقدي له تأثير مباشر على الاستثمار والنمو الاقتصادي.
مع مطلع عام 2024، بدأت علامات التحسن تظهر تدريجيًا. البنوك المركزية الكبرى، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ألمحت إلى إمكانية إنهاء دورة رفع الفائدة والبدء في خفضها تدريجيًا.
انعكس ذلك على البنوك الإندونيسية التي عادت لتقديم تسهيلات ائتمانية أفضل، ما أعاد لشركة نوسانتارا فودز القدرة على إعادة تشغيل خطوط الإنتاج واستئناف خطط التوسع المحلية التي كانت مجمدة.
شهدت السياسة النقدية العالمية خلال العقدين الماضيين موجات متعاقبة من التيسير والتشديد، في محاولة لدعم النمو ومواجهة الأزمات. بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، خفضت بنوك مثل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة إلى مستويات شبه صفرية، مع تنفيذ برامج تيسير كمي واسعة النطاق، أعيد تكرارها خلال جائحة كوفيد-19 في 2020.
أسعار الفائدة المنخفضة وبرامج شراء الأصول، مثل السندات الحكومية وسندات الشركات، شكلت أدوات “المال الرخيص”، التي تقلل من جاذبية الادخار وتحفز الاستثمار والإنفاق. بالنسبة للاقتصادات الناشئة، يمتد تأثير هذه السياسات إلى الخارج، من خلال تدفقات رؤوس الأموال وانخفاض تكلفة الاقتراض الدولي.
التمويل الرخيص يشجع الشركات على توسيع استثماراتها، ويزيد إنفاق الأسر على السلع المعمرة والإسكان، كما يرفع من جاذبية أدوات الدين والأسهم في الأسواق الناشئة للمستثمرين الدوليين.
ووفقًا لصندوق النقد الدولي، شهدت الاقتصادات الناشئة تحسنًا ملحوظًا في التمويل الخارجي مع بداية تراجع التشديد النقدي العالمي، حيث بلغت إصدارات السندات الدولية نحو 40 مليار دولار في الربع الأول من 2024، مع استفادة دول إفريقية مثل كوت ديفوار وبنين من هذه الفرصة.
المال الرخيص أيضًا يسهم في توسع الائتمان للشركات الصغيرة والمتوسطة، التي توفر 60–70% من فرص العمل في هذه الاقتصادات، مؤكدًا دوره كرافعة للنمو المحلي.
رغم فوائده، يحمل المال الرخيص مخاطر هيكلية كبيرة. فترات الفائدة المنخفضة الطويلة قد تؤدي إلى فقاعات أصولية، خصوصًا في العقارات والأسواق المالية، كما يزيد الاعتماد على التمويل الخارجي من تراكم الديون على مستوى الحكومات والشركات.

بين 2010 و2023، ارتفعت ديون الاقتصادات الناشئة من 160% إلى أكثر من 210% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق صندوق النقد الدولي، ما يزيد خطر صعوبة السداد عند تشديد السياسة النقدية عالميًا.
الاعتماد على القرارات النقدية الخارجية، وخصوصًا الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، يزيد من هشاشة الأسواق الناشئة، حيث يمكن لرفع الفائدة في الولايات المتحدة أن يؤدي إلى خروج رؤوس الأموال، وضغط على العملات المحلية، وارتفاع التضخم، ما يضطر البنوك المركزية المحلية لتشديد السياسات رغم ضعف الأوضاع الاقتصادية الداخلية.
تظهر التجارب العالمية تفاوتًا كبيرًا في تأثير المال الرخيص. الهند استفادت من تيسير التمويل لتحقيق نمو تجاوز 8% بعد الجائحة، إلا أن ذلك صاحبه تقلبات في سعر صرف الروبية وارتفاع فاتورة الواردات، ما اضطر السلطات إلى تبني سياسات متوازنة بين دعم النمو والحفاظ على الاستقرار المالي.
في المقابل، اقتصادات إفريقيا جنوب الصحراء، مثل جنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا، واجهت قيودًا مؤسسية ومخاطر دين مرتفعة، قللت استفادتها من التمويل العالمي الميسّر، رغم انخفاض تكاليف الاقتراض عالميًا.
عودة المال الرخيص تمنح الاقتصادات الناشئة فرصة لاستعادة النشاط بعد سنوات من الضغوط، لكنها ليست ضمانًا للنمو المستدام. فهي أداة قد تنعش الاقتصاد مؤقتًا، لكنها تكشف في الوقت نفسه هشاشة البنية المالية وقدرة الدول على تحويل الفرص قصيرة الأجل إلى مكاسب دائمة.




