الفيدرالي الأمريكي وإدارة السيولة.. تحركات استباقية في مواجهة ضغوط السوق

في خريف 2019، شهدت الأسواق المالية الأمريكية حالة من الذعر المفاجئ حين ارتفعت أسعار التمويل قصير الأجل في سوق “الريبو” لإعادة الشراء لليلة واحدة، لتصل إلى مستويات غير مسبوقة عند 10%، مقابل المعدل الطبيعي البالغ 2%.
أجبرت هذه الارتفاعات الاحتياطي الفيدرالي على التدخل لأول مرة منذ نحو عقد، في محاولة لاحتواء أزمة سيولة محتملة تهدد استقرار البنوك وصناديق التحوط على حد سواء.
على الرغم من أن الفيدرالي كان قد بدأ للتو دورة تخفيف نقدي، إلا أنه اضطر لضخ عشرات المليارات من الدولارات عبر اتفاقيات الريبو خلال الأيام الأولى، مع الالتزام لاحقًا بتوفير تريليونات الدولارات إذا لزم الأمر.
وعلى الرغم من استقرار الأسواق بحلول نهاية العام، ظل الغموض يكتنف أسباب الصدمة، حيث أرجع بنك التسويات الدولية السبب جزئيًا إلى امتناع البنوك الكبرى عن الإقراض في مواجهة طلب مرتفع من صناديق التحوط.
مع مرور الوقت، اتضح أن بعض البنوك الأمريكية الكبرى، وعلى رأسها “جيه بي مورجان”، تتبنى نهجًا مشابهًا في إدارة السيولة.

منذ 2023، سحب البنك نحو 350 مليار دولار من حسابه لدى الاحتياطي الفيدرالي وأعاد توجيه معظمها إلى سندات الخزانة الأمريكية تحوطًا لانخفاض أسعار الفائدة، في وقت بدأ فيه الفيدرالي بخفض الفائدة بمقدار 175 نقطة أساس منذ سبتمبر 2024.
بحلول نهاية 2023، كان رصيد “جيه بي مورجان” لدى الفيدرالي يزيد على 400 مليار دولار، لكنه انخفض سريعًا إلى 63 مليار دولار في الربع الثالث من العام الجاري، مساهمًا في تعويض حركة النقد من جميع البنوك الأمريكية الأخرى، حيث انخفض إجمالي السيولة المحتفظ بها لدى الاحتياطي الفيدرالي من 1.9 تريليون دولار إلى حوالي 1.6 تريليون دولار.
منذ تولي جيروم باول قيادة البنك المركزي الأمريكي عام 2018، تضخمت ميزانية الفيدرالي من 4.4 تريليون دولار إلى حوالي 9 تريليونات بحلول 2022، قبل أن يبدأ التقليص لاحقًا.
ومع ارتفاع ضغوط السوق مؤخرًا، قرر الفيدرالي التوقف عن التقليص والعودة لشراء السندات قصيرة الأجل بمعدل 40 مليار دولار شهريًا، مع إعادة استثمار عوائد سندات الرهن العقاري البالغة 15 مليار دولار في أذون الخزانة.
كما عاد البنك للتدخل في سوق الريبو منذ منتصف أكتوبر، مضخًا عشرات المليارات من الدولارات، وسط ارتفاع أسعار اتفاقيات الريبو إلى 4.05% الشهر الماضي، أي أعلى من النطاق المستهدف للفائدة البالغ 3.75%–4.00% قبل خفضها إلى 3.50%–3.75% في ديسمبر.
ووصف رئيس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، جون ويليامز، هذه العمليات بأنها تعمل كممتص للصدمات، للحد من الضغوط على أسعار الفائدة الناتجة عن زيادة الطلب على السيولة.
رغم هذه الضغوط، لا يشبه الوضع الحالي أزمة سبتمبر 2019، إذ لم تُسجل اختلالات هيكلية. ويبدو أن الفيدرالي يعتمد الآن نهج “الاعتماد المُدار على السيولة” لضبط أسعار الفائدة والحفاظ على استقرار السوق دون الانزلاق نحو أزمة حقيقية.

عادةً ما يرتفع التمويل قصير الأجل في بداية كل ربع سنة، لكن تدخل الفيدرالي ساهم في خفض سعر الريبو لفترة نهاية العام إلى 4.10%، رغم بقائه أعلى بنحو 45 نقطة أساس عن سعر الفائدة الفيدرالية.
كما يتوقع أن يقل حجم مشتريات القطاع الخاص للسندات في 2026، ما قد يرفع أسعار السندات ويخفض العوائد.
بين التفاؤل الذي تبديه توقعات وول ستريت بنمو أرباح الشركات الأمريكية 12% وارتفاع الأسهم 15%، والتحذيرات المتعلقة باعتماد الأسواق على السيولة، يظل السؤال قائمًا: هل ستتمكن السياسة النقدية من الحفاظ على التوازن بين دعم الاستقرار ومنع تحوّل السيولة إلى “إدمان”؟ حتى الآن، تبدو الأسواق مستقرة، لكن أي تحرك مفاجئ قد يعيد شبح أزمة الريبو إلى الواجهة.




