اقتصاد المغربالأخبار

مبدأ المحاسبة في مهب الصمت: لماذا تغيب نتائج التحقيقات في الكوارث الوطنية؟

في كل مرة تستفيق فيها المملكة على وقع فاجعة وطنية، سواء كانت فيضانات جارفة تطمس معالم القرى، أو انهيارات عمرانية تواري الضحايا تحت الأنقاض، أو حوادث نقل جماعي تدمي القلوب، يتكرر المشهد الرسمي ذاته بتفاصيله الرتيبة؛ حيث يسارع القضاء إلى إصدار بيان مقتضب يعلن فيه أن النيابة العامة قد فتحت تحقيقاً قانونياً دقيقاً لتحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات.

ومع ذلك، فإن هذا الإعلان الذي يهدف في الأصل إلى طمأنة الرأي العام، سرعان ما يتحول مع مرور الوقت إلى مجرد “مسكن” لامتصاص الغضب اللحظي، إذ تظل مصير غالبية هذه التحقيقات مجهولة بعد سنوات من الصمت، مما يفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات حارقة حول مدى شفافية المؤسسات وقدرتها على تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة بعيداً عن منطق “طمر الملفات”.

إن قراءة متأنية في مسار البلاغات الرسمية منذ منتصف العقد الأول من الألفية، تكشف أن الدولة أعلنت عن فتح ما يتراوح بين 40 و60 تحقيقاً قضائياً في أعقاب كوارث متنوعة، دون أن يواكب ذلك تدفق للمعلومات حول النتائج النهائية أو العقوبات المتخذة، وهو ما يعزز الانطباع بأن التحقيق ينتهي غالباً عند عتبة “امتصاص الصدمة” الأولى.

وتأتي الانهيارات العمرانية في طليعة هذه الملفات المسكوت عنها، إذ شهد العقدان الماضيان فتح نحو 20 تحقيقاً عقب سقوط مبانٍ سكنية في حواضر كبرى كالدار البيضاء وفاس وطنجة، وبالرغم من أن التقارير الأولية كانت تشير دوماً إلى خلل في معايير السلامة أو تقصير في المراقبة والتعمير، إلا أن الرأي العام ظل يجهل الجهات التي حُملت المسؤولية القانونية في نهاية المطاف.

هذا الضباب الرقمي يمتد ليشمل الكوارث الطبيعية أيضاً، وتحديداً الفيضانات التي أودت بحياة العشرات في مناطق ككلميم وطنجة وآسفي وتارودانت بين عامي 2014 و2025؛ فبالرغم من فتح ما يقارب 12 تحقيقاً قضائياً لتشخيص الأعطاب التقنية والإدارية التي ضاعفت من حجم الخسائر، إلا أن التقارير النهائية ظلت حبيسة الرفوف، ولم تخرج إلى العلن لتشرح للمواطنين أسباب الخلل أو لتحدد المسؤوليات البشرية وراء الكوارث التي صُنفت “طبيعية”.

وهو المسار ذاته الذي سلكته التحقيقات في قطاع النقل، حيث فتحت النيابة العامة نحو 8 تحقيقات في حوادث كبرى بين 2011 و2022، ظل فيها حادث “قطار بوقنادل” استثناءً يتيماً وصل إلى المحاكمة، وإن كان قد اقتصر على الجوانب التقنية الصرفة دون النبش في المسؤوليات السياسية أو الهيكلية الأوسع.

إن هذا الغياب المستمر للتواصل الرسمي حول مآلات التحقيقات، بما يشمله من كوارث صناعية وبيئية أو وفيات جماعية غامضة، لا يضعف فقط ثقة المواطنين في المؤسسات، بل يترك عائلات الضحايا في دوامة من الانتظار المرير والبحث عن إنصاف لا يأتي.

وبينما تكتفي رئاسة النيابة العامة في تقاريرها السنوية بتقديم جرد عام لنشاطها القضائي دون الغوص في تفاصيل الكوارث الكبرى، يستمر الشرخ في الاتساع بين لغة “البلاغات الافتتاحية” وبين واقع الصمت الذي يليها، مما يجعل النقاش في المغرب يتجاوز مجرد البحث عن الحقيقة الجنائية ليصل إلى المطالبة ببيئة سياسية وقانونية تضمن ألا تظل نتائج التحقيقات حبيسة الملفات المنسية، بعيداً عن عيون الرأي العام الذي سئم من انتظار إجابات لا تأتي أبداً.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى