الاقتصادية

موجة صعود تاريخية للنحاس… بين اندفاع صيني، وتيسير أميركي، وشبح نقص عالمي يلوح في الأفق

تعيش أسواق النحاس العالمية لحظة استثنائية، بعد أن دفعت مزيج من التحولات الاقتصادية الكبرى—من بكين إلى واشنطن—أسعار المعدن الأحمر إلى مستويات غير مسبوقة. فمع تسارع التوقعات بخفض الفائدة الأميركية، وتبنّي الصين سياسة دعم اقتصادي أكثر جرأة، بدأ المستثمرون يتدفقون نحو النحاس باعتباره أحد أكثر السلع الاستراتيجية استعداداً للانطلاق خلال السنوات المقبلة.

في بورصة لندن للمعادن، سجّل النحاس معيار الثلاثة أشهر مستوى جديدًا بلغ 11,771 دولارًا للطن، في حين لامست الأسعار في شنغهاي حاجز 93,300 يوان للطن، وسط موجة ارتفاع شملت أيضًا أسواق نيويورك ومومباي.

هذه القفزة ليست ظرفية، بل تعكس تحوّلًا عالميًا في توقعات الطلب والإمدادات.

جاء الارتفاع الكبير عقب اجتماع رفيع في بكين، أعلن فيه القادة أن دعم النمو سيكون أولوية مطلقة لعام 2026، مع وعود بسياسات مالية أكثر توسعًا ونقدية أكثر مرونة. هذا التوجيه فُسّر في الأسواق كضوء أخضر لضخ استثمارات ضخمة في:

  • تحديث شبكات الكهرباء

  • مشاريع الطاقة المتجددة

  • مراكز البيانات والحوسبة عالية الأداء

وهي قطاعات تُعد من أكبر مستهلكي النحاس عالميًا.

كما دعمت البيانات التجارية الصينية هذا الاتجاه، مع صعود الصادرات وتحقيق فائض تجاري سنوي قياسي تجاوز تريليون دولار، ما دفع عقود النحاس في شنغهاي إلى إغلاق قياسي جديد.

أما على المدى الطويل، فتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يقفز الطلب العالمي على النحاس المكرر إلى 33 مليون طن في 2035 و37 مليون طن بحلول 2050، مقارنة بـ27 مليون طن فقط في 2024، ما يعزز توقعات شحّ السوق خلال العقد المقبل.

أقدم الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على خفض الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الدولار، وزاد من جاذبية السلع المقوّمة به مثل النحاس.

كما زادت المخاوف من احتمال فرض رسوم جمركية أميركية على النحاس المكرر، ما دفع الشركات الأميركية إلى موجة تخزين واسعة.

ورغم ارتفاع المخزونات الأميركية إلى مستويات قياسية، فإن المخزونات خارج الولايات المتحدة تتجه للتقلص، في وقت بدأت فيه مصاهر الصين خفض إنتاج النحاس المكرر بنسبة تصل إلى 10% بسبب تراجع رسوم المعالجة ونقص الإمدادات.

وتقدّر GF Futures وCitic Securities أن السوق قد يسجل عجزًا يصل إلى 450 ألف طن بحلول 2026، فيما ترى Citic أن الأسعار قد تتجاوز 12 ألف دولار للطن لتحفيز استثمارات منجمية جديدة.

يبقى العرض أحد أكثر جوانب السوق هشاشة. فاضطرابات الإنتاج في تشيلي وبيرو—المسؤولتين معًا عن نحو 40% من النحاس المستخرج عالميًا—بدأت تعكس آثارًا واضحة على الإمدادات، بسبب:

  • انخفاض جودة الخام

  • نقص المياه

  • تأخر التصاريح الحكومية

كما تشير بيانات ICSG إلى أن نمو الإمدادات المكررة عالمياً لم يتجاوز 1% في 2024، بينما نما إنتاج المناجم بأقل من 2%، وهو ما يبرز خطورة الفجوة المتسعة بين العرض والطلب.

تتجه الأنظار إلى مشاريع جديدة واعدة مثل Filo Corp في الأرجنتين وIvanhoe Electric في الولايات المتحدة، إضافة إلى مشروع Copper World في أريزونا، غير أن معظم هذه المشاريع لا تزال في مراحل مبكرة ولن تكون قادرة على حل أزمة الإمدادات في المدى القريب.

يتوقع خبراء أن تكون السنوات المقبلة—وخاصة 2026—واحدة من أكثر الفترات تقلبًا في تاريخ سوق النحاس، مع اجتماع عدة عوامل:

  • الطلب الهائل من السيارات الكهربائية التي تستهلك حتى 4 أضعاف النحاس مقارنة بالسيارات التقليدية

  • توسع مشاريع الطاقة الشمسية والرياح

  • الارتفاع السريع في الطلب على مراكز البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي

  • تراجع نمو الإمدادات من المناجم بسبب تحديات بيئية وجيولوجية

كما قد يؤدي أي خفض إضافي للفائدة الأميركية أو استمرار ضعف الدولار إلى رفع الأسعار أكثر، بينما قد يؤدي تباطؤ الاقتصاد العالمي أو تراجع الطلب الصيني إلى تصحيح قوي.

وتشير توقعات J.P. Morgan إلى أن السوق سيدخل عام 2026 بعجز يبلغ نحو 330 ألف طن مع إمكانية صعود الأسعار إلى 12,500 دولار للطن.

كل المؤشرات تشير إلى أن سوق النحاس يستعد لمرحلة عنوانها:
طلب صاعد بقوة… ومعروض يئن تحت الضغط… وأسعار مرشحة للمزيد من التقلب والارتفاع.

وإذا استمرت هذه المعادلة، فإن العالم قد يدخل بالفعل في “عصر النحاس”، حيث يصبح المعدن الأحمر أحد أهم الموارد الاستراتيجية للتحول الطاقي والرقمي خلال العقد المقبل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى