اقتصاد بلا وزن: هل فشل الناتج المحلي الإجمالي في عصر البيانات؟

في عصر تتسارع فيه التحوّلات الرقمية بشكل هائل، وتصبح القيمة الاقتصادية أكثر اعتماداً على الأصول غير الملموسة والبيانات، تطرح الكاتبة والاقتصادية البريطانية البارزة ديان كويل سؤالاً محوريّاً لا يمكن تجاهله: هل ما زال الناتج المحلي الإجمالي (GDP) أداة صالحة لقياس اقتصاد لم تعد أثمن مكوناته ملموسة؟
هذا التساؤل الجذري هو محور كتابها الجديد الذي هزّ أركان الإحصاءات التقليدية.
في كتابها الجديد «مقياس التقدّم: عدّ ما يهمّ فعلاً»، تقدم كويل نقداً حاداً للإحصاءات الاقتصادية التقليدية، مؤكدة على الحاجة إلى إطار جديد لقياس الثروة يتماشى مع اقتصاد اليوم، حيث البرمجيات، البيانات، والخبرة الفنية غالباً ما تعادل قيمة السلع الملموسة أو تتجاوزها.

تشير كويل إلى أن الأزمة ليست في الأدوات وحدها، بل في تجاهل قطاعات كاملة من العمل غير المسجّل، مثل الرعاية والعمل المنزلي، التي تمثل ركائز أساسية للنشاط الاقتصادي. فالإطار الإحصائي الحالي، الموروث من أربعينيات القرن الماضي، لم يعد يتناسب مع اقتصاد يعتمد على العولمة والرقمنة والتمويلية، وهو اقتصاد أكثر تعقيداً وأقل شفافية من أي وقت مضى.
تستعيد كويل فكرة سبق أن طرحتها قبل ثلاثة عقود في كتابها «العالم عديم الوزن»، حيث جادلت بأن القيمة الاقتصادية لم تعد تقاس بوزن السلع، بل بالخدمات والأصول غير الملموسة. اليوم، حتى شركات التصنيع الكبرى تعتمد في إيراداتها على خدمات مرتبطة بالمنتج أكثر من المنتج نفسه، ما يعقد تحديد مكان خلق القيمة داخل الشبكات الاقتصادية العالمية.
و تسلط كويل الضوء على تباطؤ الإنتاجية في دول مجموعة السبع منذ أزمة 2008، رغم الانتشار الواسع للتكنولوجيا الرقمية، وهو ما ارتبط بارتفاع التوترات السياسية وصعود موجات شعبوية. ومع دخول الذكاء الاصطناعي مرحلة جديدة، تتوقع كويل أن يصبح قياس الاقتصاد أكثر صعوبة، مما يفاقم التناقضات الحالية بين النمو والتكنولوجيا.
تؤكد كويل أن الإحصاءات الاقتصادية ليست محايدة؛ فهي تعكس البنى الحاكمة وتشكل السياسات الاقتصادية. وبالرغم من أهميتها للحكم الرشيد، فإن القياسات الحالية فشلت في احتساب قيمة البيئة، وتأثير النشاط الاقتصادي غير الملموس، مما يجعل الناتج المحلي الإجمالي أداة غير كافية لتمثيل الثروة الحديثة.

بينما تركز كويل على تطوير أدوات قياس جديدة، يرى الكاتب جيمس هودجسون أن السؤال الأكبر لم يُجب عنه: هل غموض الاقتصاد الحالي نتيجة طبيعية أم مقصودة؟ يشير تاريخ النيوليبرالية إلى أن تحرير رأس المال منذ السبعينيات أدى إلى اقتصاد صعب القياس وأقل خضوعاً للرقابة، مما يطرح تحدياً أمام أي محاولة لإعادة تمكين الدولة عبر أدوات قياس جديدة.
في ختام كتابها، تقدم كويل بديلاً للناتج المحلي الإجمالي يعتمد على قياس الثروة الشاملة: رأس المال المادي، البشري، الاجتماعي، التنظيمي والبيئي، وعلاقات التكامل بينها. على الرغم من أن هذا الإطار ما يزال في بداياته، إلا أنه يمثّل نقطة انطلاق للحوار حول كيفية إعادة الدول لفهم اقتصاداتها بعمق أكبر.
يبقى كتاب كويل إضافة مهمة للنقاش في الاقتصاد السياسي، مقدمًا رؤية نقدية وواعدة رغم بعض الأسئلة التي لم تجد إجابة واضحة، لكنه يفتح الباب لنقاش أساسي حول قياس ما يهم فعلاً في عالم الاقتصاد الرقمي المعقد.




