الاقتصاديةالتكنولوجيا

العباقرة الضائعون: كيف يهدر العالم أذكى العقول الشابة؟

في زاوية هادئة من سراييفو، كان إرفين ماتيتش يقضي ساعات طويلة أمام كمبيوتر قديم، يحلم بأن يصبح واحدًا من صانعي المستقبل في الذكاء الاصطناعي.

هذا الشاب البوسني الذي فاز بميداليات في الأولمبياد الدولية للرياضيات، بدأ أبحاثه لتسريع وتطوير أداء النماذج التنبؤية، لكنه اصطدم بعائق مالي كبير: تكاليف الدراسة في جامعة أكسفورد كانت بعيدة المنال. فاختار أن يكمل تعليمه في جامعة محلية، محافظًا على شغفه رغم كل الصعوبات.

قصته ليست استثناءً. على نطاق عالمي، ملايين الشباب الموهوبين يفتقدون الفرص اللازمة لتطوير قدراتهم. الاقتصاديون يصفون هؤلاء بـ”الآينشتاينات الضائعة” — شباب كان يمكنهم تحقيق اكتشافات علمية هائلة لو أتيحت لهم الموارد والدعم المناسب.

في الوقت الذي تنفق فيه الدول مليارات على تصنيع الرقائق وتطوير التكنولوجيا، غالبًا ما تُغفل الاستثمار في أغلى مواردها: العقول البشرية. نقص الباحثين المتميزين يؤدي إلى ارتفاع أجور غير مسبوق لقلة محدودة منهم، بينما تظل ملايين المواهب الكامنة بلا رعاية.

السياسات العالمية اليوم تركز على استقطاب النجوم المعروفين بالفعل، لا على اكتشاف عباقرة جدد. الصين أطلقت “برنامج الألف موهبة”، والولايات المتحدة تمنح تأشيرات خاصة للعلماء، واليابان والاتحاد الأوروبي أعلنا برامج مماثلة.

لكن غالبًا ما تستهدف هذه المبادرات النخبة القائمة، تاركة معظم الطاقات غير المستغلة.

تشير الدراسات إلى أن 90% من شباب العالم يعيشون في الدول النامية، بينما تتركز معظم جوائز نوبل في أمريكا وأوروبا واليابان. كما أن أبناء الأسر الغنية أكثر احتمالًا عشر مرات لأن يصبحوا مخترعين مقارنة بأقرانهم من الطبقات الوسطى والفقيرة.

تحسين التعليم والتغذية مهم، لكنه ليس كافيًا. يجب التركيز على المراحل العمرية الحرجة، خصوصًا سن المراهقة، حيث تظهر المواهب بشكل أوضح. نقل شاب موهوب إلى بيئة تعليمية أفضل يمكن أن يضاعف فرصه في أن يصبح مخترعًا ومبتكرًا.

الرياضة تقدم مثالًا ناجحًا لكيفية اكتشاف وتطوير المواهب تدريجيًا. أنظمة المزارع في البيسبول، والأكاديميات العالمية لكرة السلة، أظهرت كيف يمكن استقطاب المراهقين، صقل مهاراتهم، ودمجهم لاحقًا في البطولات الكبرى. النتيجة: رفع مستوى الجودة وزيادة التنوع.

بعض العباقرة يظهرون بوضوح منذ البداية، مثل هانا كايرو من جزر الباهاماس التي حلت مسألة رياضية صعبة استعصت لعقود.

مسابقات مثل الأولمبياد تعد مؤشراً قويًا للنجاح المستقبلي: واحد من كل 40 فائزًا بالميدالية الذهبية يصبح لاحقًا باحثًا رائدًا أو يحصل على جائزة علمية مرموقة.

العصر الرقمي يوفر طرقًا مبتكرة لرصد القدرات. نحو 10% من سكان العالم استخدموا ChatGPT، نصفهم تقريبًا تحت سن 25 عامًا. هذه البصمات الرقمية يمكن أن تكشف عن الإبداع والمثابرة، ما يفتح آفاقًا جديدة أمام الكشافين في المدارس والمسابقات وحتى الفضاء الرقمي.

لكن اكتشاف المواهب ليس كافيًا؛ يجب توفير المرشدين والبيئات الغنية بالأقران الموهوبين. الدراسات تشير إلى أن المعلمين العاديين الذين ينظمون مسابقات وورش عمل كافية لزيادة فرص الطلاب الموهوبين في دخول جامعات نخبوية والانخراط في البحث العلمي.

الجامعات تظل بوابات أساسية، لكنها غالبًا ما ترى الطلاب الدوليين كمصدر دخل وليس كمبتكرين محتملين، ما يقيد فرص الفائزين في الأولمبياد للالتحاق بالمؤسسات النخبوية. إزالة العقبات المالية يمكن أن ترفع الإنتاج العلمي للأجيال المقبلة بنسبة تصل إلى 50%.

بعض الحكومات نجحت في دعم المواهب، مثل سنغافورة التي اعتمدت امتحانات وطنية ومنح خارجية، وأمريكا التي دعمت الفنانين والمبدعين في الثلاثينيات.

لكن العبء الأكبر يقع اليوم على المؤسسات الخيرية. على سبيل المثال، “صندوق المواهب العالمي” ساعد ماتيتش على الالتحاق بأكسفورد، كما تقدم مبادرات أخرى مسابقات ورعاية للمراهقين المبدعين.

الدول التي تحشد وتطور مواهبها تحقق التفوق في السباقات الاستراتيجية الكبرى: من مشروع مانهاتن إلى برنامج أبولو. الاستثمار في العقول لا يقل أهمية عن الاستثمار في التكنولوجيا.

إزالة العقبات أمام المواهب العالمية يمكن أن تضاعف عدد المبتكرين مرات عدة، مسرعة اكتشاف الأدوية، ودفع التحول الأخضر، وتطوير الذكاء الاصطناعي، في حين يظل هدر المواهب أخطر معوقات التقدم العالمي.

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى