الاقتصاديةالتكنولوجيا

الرقائق الإلكترونية: العمود الفقري للاقتصاد الحديث والأمن الغذائي

مع مطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، اكتشف العالم هشاشة اقتصاده الحديث بطريقة غير متوقعة: توقف إنتاج السيارات الكبرى فجأة، وأُجبر آلاف العمال على إجازات قسرية، وسجلت شركات عالمية مثل فورد وتويوتا وفولكس فاجن خسائر فادحة.

المفاجأة؟ السبب لم يكن وباءً جديدًا أو نقصًا في الموارد، بل رقاقة إلكترونية صغيرة لا يتجاوز حجمها حجم ظفر الإصبع.

هذه الشرائح الدقيقة، المستخدمة في أنظمة الفرامل، الملاحة، الحساسات، والتحكم في المحرك، كشفت عن هشاشة سلاسل التوريد العالمية. توقف مصنع واحد في أي مكان من العالم كاد أن يشل صناعة بقيمة تريليونات الدولارات.

اليوم، لم تعد هذه الرقائق مجرد مكوّن تقني، بل صارت شريان الحياة للاقتصاد الحديث: الهواتف، السيارات الكهربائية، الطائرات المسيّرة، المصانع الذكية، شبكات الكهرباء، وحتى أنظمة إدارة الغذاء تعتمد عليها بالكامل.

هذا الواقع منح الدول القادرة على تصنيع الرقائق نفوذًا اقتصاديًا استثنائيًا، في حين تواجه الدول الأخرى مخاطر التراجع مهما كانت ثرواتها الطبيعية.

تركّز صناعة الرقائق المتقدمة حسب الدول والمناطق (بحسب موقع تريندفورس):

الدولة / المنطقة

الحصة من الإنتاج العالمي

(حسب بيانات 2023)

تايوان

%46

الصين

%26

كوريا الجنوبية

%12

الولايات المتحدة

%6

دول/مناطق أخرى (بما فيها اليابان، وأوروبا)

%10-15

صناعة أشباه الموصلات أصبحت واحدة من أكبر الصناعات العالمية من حيث القيمة والأثر. وفق بيانات “غارتنر”، بلغت إيرادات القطاع نحو 655.9 مليار دولار في 2024، مدفوعة بالطلب المتزايد على شرائح الذكاء الاصطناعي، الحوسبة، الاتصالات، والصناعات المتقدمة.

من المتوقع أن يصل إنتاج الرقائق العالمية، المقاس بالألواح الرقيقة من السيليكون، إلى 33.7 مليون ويفر شهريًا بحلول 2025، بزيادة 6 إلى 7% عن العام السابق.

لكن التحدي الأكبر يكمن في التوزيع غير المتوازن لقدرات التصنيع: غالبية القدرات المتقدمة تتركز في تايوان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، بينما تحتفظ الصين بحصة كبيرة من التصنيع التقليدي.

تايوان، على سبيل المثال، تنتج وحدها شرائح بقيمة 152 مليار دولار في 2024، مع سيطرة شركة “تي إس إم سي” على أحدث التقنيات. هذا التركيز يجعل صناعة الرقائق عرضة لمخاطر استراتيجية وسياسية، إذ أي اضطراب في هذه المناطق قد يهدد سلسلة التوريد العالمية بأكملها.

رغم أن الغذاء حاجة وجودية مباشرة، فإن السنوات الأخيرة أظهرت أن انقطاع رقاقة واحدة قد يعطل أنظمة حيوية، بدءًا من الزراعة الذكية ووصولًا إلى إدارة المخزون الغذائي والطاقة.

العالم ينتج ما يكفي من الحبوب (حوالي 3 مليارات طن سنويًا)، لكن التحدي يكمن في التوزيع واستدامة البنية اللوجستية. أما الرقائق، فهي مسألة تقنية واستراتيجية؛ أي نقص فيها يمكن أن يوقف الصناعات الحديثة بأكملها، من السيارات إلى الطاقة والصناعات الرقمية.

اليوم، أصبحت الرقائق صناعة أمن قومي. الولايات المتحدة أصدرت “قانون الرقائق والعلوم” لتخصيص أكثر من 50 مليار دولار لدعم الإنتاج المحلي. أوروبا أطلقت “خطة الرقائق الأوروبية” لمضاعفة حصتها السوقية، بينما أنشأت الصين صندوقًا وطنيًا لتسريع اللحاق بالغرب.

في ظل القيود الأمريكية على تصدير المعدات المتقدمة للصين، صارت الرقائق أداة ردع جيوسياسي وليست مجرد سلعة تجارية. أزمة 2020-2022 أظهرت ذلك بوضوح، إذ أدى نقص الشرائح إلى تباطؤ إنتاج السيارات وتعطّل صناعات حيوية، بما في ذلك الطاقة والإلكترونيات.

و في عالم مترابط، لم يعد السؤال مقتصرًا على إنتاج الغذاء فقط، بل على قدرة الدول على تشغيل أنظمتها الاقتصادية والتقنية في آن واحد. الحل يكمن في استراتيجيات مزدوجة: تأمين منظومات غذائية محلية وإقليمية مرنة، وبناء قدرات محلية أو متنوعة المصدر للرقائق.

الاستثمار في الزراعة المقاومة للتقلبات والمعززة بالتكنولوجيا، إلى جانب دعم التصنيع المحلي أو المتنوع للرقائق، هو السبيل لضمان أمن مزدوج: غذائي وتقني، في مواجهة المخاطر العالمية المتزايدة.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى