الاقتصادية

القادة الذين يرون ما لا يراه الآخرون: كيف تصنع الرؤية مستقبل المؤسسات؟

في زمن أصبح فيه كل شيء قابلًا للتغيير بين ليلة وضحاها—من قواعد الاقتصاد إلى قواعد التواصل—لم تعد القدرة على إدارة الحاضر كافية.

فالعالم اليوم لا يكافئ من يتقن التسيير، بل من يستطيع استشراف ما هو قادم. وفي هذا السياق يتصدر سؤال جوهري المشهد: لماذا ينجح بعض القادة في توجيه الدفة بثقة، بينما يجد آخرون أنفسهم تائهين وسط الضباب؟

لم تعد الرؤية شعارًا مؤسساتيًا يُكتب في الكتيبات، بل أصبحت العمود الفقري لأي قيادة فعّالة. فالقائد صاحب الرؤية لا ينتظر الظروف كي ترسم له الطريق، بل يبادر بصنعه. وينجح في إلهام فريقه لأن يرى ما يراه هو قبل أن يتجسد على أرض الواقع.

وفقًا لـ آدم جالينسكي من كلية كولومبيا للأعمال، فإن جوهر القيادة الملهمة يقوم على ثلاثة عناصر: الإرشاد، القدوة، والرؤية.
ويقسّم بناء الرؤية إلى ثلاث مراحل واضحة:

  1. تصميم صورة مستقبلية متفائلة تستند إلى قيم عميقة.

  2. تجريد هذه الصورة لتصبح قابلة للتخيل والفهم من طرف الجميع.

  3. ترسيخها عبر التكرار حتى تتحول إلى ثقافة مؤسسية.

أما الدراسة الواسعة التي أجراها كوزيس وبوسنر، فقد أكدت أن “التطلع إلى المستقبل” يأتي مباشرة بعد الصدق كأكثر صفة يبحث عنها الناس في قادتهم.

ويضيف مايكل واتكينز من كلية IMD أن الرؤية تُعتبر قوة توحيدية، لأنها ترفع سقف الأهداف من مستوى الفرد إلى مستوى المؤسسة بأكملها.

قليلون من يجسّدون روح الرؤية مثل بيتر دراكر، الذي رسّخ مفهوم الإدارة الحديثة وحوّلها من إجراءات جامدة إلى ممارسة إنسانية تؤثر في المجتمعات.

طوال سبعة عقود من العطاء، أسس دراكر لمدارس فكرية وبرامج تعليمية شكلت أساس الإدارة الحديثة، وفتح آفاقًا جديدة حين أكد أن المنظمات غير الربحية تمتلك دروسًا قيمة للقطاع الخاص.

في مذكراته “مغامرات متفرج”، يتحدث دراكر عن صداقاته مع مفكرين مثل بكمنستر فولر ومارشال ماكلوهان، اللذين كانا من أوائل من توقعوا تحولات العالم الحديث.
ماكلوهان تحديدًا قدم فكرتين أصبحتا مرجعًا عالميًا:

  • “الوسيط هو الرسالة”

  • “القرية العالمية”

وهما تعبيران يلخصان كيف يعيد الإعلام والتكنولوجيا تشكيل وعي الإنسان وسلوكه.

كيف تصبح قائدًا صاحب رؤية؟

من تجارب هؤلاء العمالقة يمكن استخلاص قواعد ذهبية لكل من يطمح لقيادة ذات أثر:

  1. اختر من يحيط بك بذكاء… فالأفكار الكبيرة لا تزدهر إلا في بيئة خصبة.

  2. ادرس سير القادة الملهمين… ففي رحلاتهم الجواب عن كثير من الأسئلة.

  3. ابقَ فضوليًا دائمًا… المعرفة المستمرة هي مادة البناء الأساسية للرؤية.

  4. حوّل رؤيتك إلى خطوات تنفيذية… فالأحلام وحدها لا تصنع مستقبلًا.

  5. استخدم لغة بسيطة ومباشرة… لأن الفكرة العظيمة يجب أن تصل للجميع.

  6. اسأل الأسئلة الصعبة… فالرؤية لا تنمو إلا خارج منطقة الراحة.

  7. اصنع رؤية تخدم الآخرين… فالرؤى الأخلاقية هي الأكثر بقاءً وتأثيرًا.

يمكن لأي شخص أن يدّعي أنه يمتلك رؤية، لكن القلة فقط هم من يمنحهم الآخرون هذا الوصف.
الرؤية الحقيقية تُقاس بامتداد أثرها، وبالتحولات التي تلهمها، وبالناس الذين يواصلون السير على خطاها بعد غياب صاحبها.

وفي النهاية، يبقى الزمن هو الشاهد النهائي على من كان مجرد متحدث، ومن كان قائدًا يرى أبعد مما يراه الجميع.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى