من الهاتف الذكي إلى البنوك الرقمية: كيف أعادت منصات الدفع تشكيل النظام المالي العالمي

في قلب المدن المزدحمة حول العالم، لم يعد امتلاك حساب مصرفي شرطًا أساسيًا لإدارة المال. بائع القهوة الإندونيسي “أرفين” مثال حي على هذا التحول؛ إذ يستخدم هاتفه الذكي لتلقي المدفوعات عبر تطبيق جو باي (GoPay)، ويحوّل أرباحه مباشرة لشراء السلع، دفع الفواتير، وحتى الحصول على قرض قصير لتوسيع عربته، دون الحاجة إلى أي تعامل مباشر مع البنوك التقليدية.
هذا النموذج لم يعد استثناءً، بل يمثل موجة عالمية تغيّر جذريًا العلاقة بين الناس والنقود خلال العقد الأخير. شركات الدفع الرقمي تحوّلت من مجرد وسطاء لتسهيل المعاملات إلى لاعبين منافسين للبنوك التقليدية، تدير تريليونات الدولارات سنويًا، وتقدّم خدمات مالية كانت حكرًا على المؤسسات المصرفية.
قبل سنوات، كانت منصات الدفع أدوات مساعدة للبنوك والتجار على الإنترنت. اليوم، شركات مثل بايبال وسترايب وريفوليت تدير أحجام أموال تتجاوز اقتصادات دول صغيرة، وتحولت إلى منظومات مالية متكاملة.
فعلى سبيل المثال، عالجت سترايب نحو 1.4 تريليون دولار في 2024، بزيادة 38% عن العام السابق، بينما سجلت بايبال 1.68 تريليون دولار. في أوروبا، عالجت منصات مثل آديين أكثر من تريليون دولار، فيما أصبح إم بيسا في كينيا بنية تحتية مالية قائمة بذاتها، بإجمالي معاملات يقارب 309 مليارات دولار عبر نحو 28 مليار عملية سنويًا.
منصات الدفع لم تعد مقتصرة على التحويلات والمدفوعات، بل توسعت إلى سوق الإقراض الاستهلاكي والتمويل غير البنكي، من خلال نماذج مثل “اشتر الآن وادفع لاحقًا”.

فشركة كلارنا سجلت حجم إقراض إجمالي بلغ 105 مليارات دولار في 2024، بزيادة 27% عن 2022، فيما بلغت معاملات أفيرم 10.4 مليارات دولار في الربع الأخير من 2025، بارتفاع 43% سنويًا.
هذا التوسع يمكّن المنصات من تقديم الائتمان مباشرة للمستهلكين خارج النظام المصرفي، مستفيدة من البيانات الضخمة لتحليل سلوك المستهلك واستهداف التمويل بدقة عالية، مع تكلفة اكتساب عميل أقل مقارنة بالبنوك التقليدية.
مقارنة الخصائص المالية بين البنوك التقليدية ومنصات الدفع
|
الخاصية |
البنوك التقليدية |
منصات الدفع الرقمية |
|
جمع الودائع |
نعم |
محدود |
|
منح الائتمان |
نعم |
نعم |
|
البيانات الاستهلاكية |
محدودة |
كبيرة ودقيقة |
|
التنظيم والرقابة |
صارمة |
مرنة أو عبر شراكات |
|
الوصول إلى المستهلك النهائي |
محدود |
مباشر |
تكمن القوة الاستراتيجية لمنصات الدفع الرقمية في البيانات الضخمة التي تجمعها حول أنماط الإنفاق، تكرار الشراء، الشرائح المستهلكة، واستجابتهم للعروض. هذه البيانات تمكّن المنصات من تقديم منتجات مالية دقيقة مثل القروض، التأمين، والخدمات الاستثمارية، أحيانًا بنفسها أو عبر شراكات.
لكن هذا النموذج يطرح تحديات تنظيمية كبيرة، إذ تعمل المنصات عبر الحدود، وتجمع بيانات حساسة، وتستخدم نماذج ائتمانية سريعة، في حين تخضع البنوك لمتطلبات صارمة لرأس المال والاحتياطي.
رغم صعود منصات الدفع، لا يعني هذا نهاية البنوك التقليدية، لكن النظام المصرفي يواجه ضغوطًا على جمع الودائع وتخصيص الائتمان. لمواجهة هذه التحديات، يجب على الجهات التنظيمية تحديث القواعد لتشمل جميع مزوّدي الخدمات المالية الكبيرة، وضمان الشفافية وحماية المستهلك.
كما يمكن أن توفر الشراكات بين البنوك والمنصات الرقمية حلولاً مشتركة تعزز نقاط القوة لدى كل طرف، وتخلق منظومة مالية أكثر شمولية ومرونة. الاستثمار في البنية التحتية للمدفوعات العامة، مثل شبكات الدفع الفوري وواجهات برمجة التطبيقات المفتوحة، يعد خطوة أساسية لضمان منافسة عادلة وحماية الاستقرار المالي.
في النهاية، مع إشراف حكومي فعال وحوكمة واضحة، يمكن لمنصات الدفع أن تتحول إلى ما يشبه “البنوك الجديدة”، موسعة النظام المالي دون استبدال البنوك التقليدية، بما يعزز الكفاءة والابتكار ويحمي مصلحة المستهلك.




