صناعة الخوف الصحي.. كيف تحوّل القلق من المرض إلى سوق بمليارات الدولارات

في أواخر التسعينيات، كانت السيدة الأمريكية نانسي أولسون تجلس في منزلها بولاية أوهايو عندما لفت انتباهها إعلان تلفزيوني يتحدث عن اضطراب جديد يدعى “متلازمة تململ الساقين”.
كان الإعلان مصممًا بعناية لإثارة القلق: شعور غامض بعدم الراحة، رغبة لا يمكن كبحها في تحريك الساقين، وصعوبة في النوم. بالنسبة إلى نانسي، بدا الأمر مألوفًا ومخيفًا في آن واحد، فسارعت إلى طلب الدواء الموصى به من طبيبها.

لكن ما لم تكن تعرفه هو أن الحملة لم تكن جزءًا من مبادرة طبية رسمية، بل خطة تسويقية ذكية من شركة “جلاكسو سميثكلاين” لتوسيع سوق أحد أدوية الأعصاب. وهكذا، تحولت حالة صحية محدودة الانتشار إلى “وباء إعلامي”، تضاعف معه عدد التشخيصات، وارتفعت المبيعات إلى مئات الملايين.
هذه القصة ليست استثناءً، بل نموذج صارخ لما بات يُعرف بـ “صناعة الخوف الصحي” — منظومة ضخمة تستغل القلق من المرض كأداة تجارية فعالة لتوسيع الأسواق ودفع المستهلكين نحو الأدوية والفحوصات والعلاجات الوقائية.
خلال العقدين الأخيرين، أصبح الإعلان الطبي الموجّه للمستهلكين أحد أقوى أدوات التسويق في قطاع الرعاية الصحية.
أشكال “تضخيم المرض” في الإعلانات:
الأسلوب المستخدم | الهدف التسويقي | أمثلة شائعة |
توسيع تعريف المرض | خلق فئات مرضى جديدة | القلق الخفيف – الأرق البسيط |
المبالغة في الأعراض | تحفيز طلب الفحوصات | حساسية الجلد – تساقط الشعر |
الترويج الوقائي | تسويق منتجات للصحة العامة | فيتامينات – فحوصات منزلية |
الإيحاء بالخطر | تسريع قرار الشراء | أمراض موسمية أو نادرة |
وتشير بيانات موقع eMarketer إلى أن ميزانية الإعلانات الطبية في الولايات المتحدة تجاوزت 30 مليار دولار عام 2024، بينما أنفقت أكبر عشر شركات أدوية نحو 3.3 مليار دولار على حملاتها وحدها، وفق تقارير Fierce Pharma وMedia Radar.
هذا الإنفاق الضخم لا ينعكس فقط على الوعي الصحي، بل على أنماط التشخيص ووصفات الأطباء، إذ تدفع الإعلانات المرضى لطلب أدوية بعينها، وتؤثر تدريجيًا على معايير تعريف المرض نفسه. والنتيجة: توسع السوق، لكن أيضًا زيادة في حالات الإفراط في العلاج أو صرف الأدوية دون ضرورة طبية واضحة.
يطلق الخبراء على هذه الظاهرة اسم “تضخيم المرض” (Disease Mongering) — أي تحويل المشكلات اليومية أو الحالات البسيطة إلى أمراض تستدعي تدخلاً دوائيًا.
أبرز من تناول هذا المفهوم الباحث الأسترالي راي مونيهان، الذي كشف كيف تموّل الشركات دراسات وتطلق حملات “توعوية” تهدف فعليًا إلى توسيع قاعدة المرضى المحتملين.
من أبرز الأمثلة على ذلك حملات شركات أدوية الكوليسترول في التسعينيات. فقد كانت أدوية “الستاتين” مخصصة لمرضى القلب أو من لديهم مستويات عالية جدًا من الكوليسترول، لكن مع بداية الألفية، موّلت الشركات حملات ودراسات دفعت إلى خفض “الحد الطبيعي” للكوليسترول الضار من 130 إلى 100 ملجم/ديسيلتر.
النتيجة؟ نحو 8 ملايين أمريكي إضافي أصبحوا مؤهلين لتلقي الدواء، لتتجاوز مبيعات الستاتين عالميًا 30 مليار دولار سنويًا بحلول 2010.
تحقيق لاحق في مجلة JAMA كشف أن 8 من أصل 9 أعضاء في اللجنة الأمريكية التي أوصت بالتغيير كانت لهم علاقات مالية مع شركات الأدوية.
الخوف في ذاته ليس أمرًا سلبيًا؛ فهو محفز فعّال للسلوك الوقائي — يدفع الناس للتطعيم، والفحص المبكر، واتباع أنماط حياة صحية.
لكن عندما يُستخدم كأداة تسويقية دون أساس علمي، يتحول إلى آلية تلاعب جماعي تخلق الهلع بدل الحذر.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك كان الجدل حول لقاح الحصبة والنكاف والحصبة الألمانية (MMR) عام 1998، عندما نشر الطبيب البريطاني أندرو ويكفيلد دراسة مزيفة ربطت اللقاح بالتوحّد. رغم أن الدراسة سُحبت لاحقًا وثبت زيفها، إلا أن تأثيرها كان كارثيًا: تراجعت معدلات التطعيم وظهرت أوبئة حصبة جديدة في أوروبا.
تشير الدراسات إلى أن الحملات الصحية القائمة على الخوف تحقق نسب استجابة إدراكية أعلى، وفقًا لمراكز السيطرة على الأمراض الأمريكية (CDC). لكن حين تتجاوز حدود التوعية إلى التهويل والابتزاز العاطفي، فإنها تُضعف الثقة في المؤسسات الصحية وتشوّه الفهم العلمي للأمراض.
لمواجهة هذا الواقع، يوصي الخبراء بـ:
تعزيز الشفافية في تمويل الحملات الصحية والإعلانات الطبية.
فصل التثقيف العام عن المصالح التجارية للشركات.
مراقبة الإعلانات التي تخلط بين المعلومات الطبية والترويج التجاري.
رفع وعي الجمهور للتمييز بين النصيحة العلمية والمحتوى التسويقي.
في النهاية، يظل الخوف أداة قوية — يمكن أن تنقذ الأرواح إذا وُجهت نحو الوقاية والتوعية العلمية، أو تضر بالمجتمع إذا تحوّل إلى وسيلة لتضخيم الأمراض وتسليع القلق.
إن مواجهة “صناعة الخوف الصحي” لا تتطلب فقط تشريعات أكثر صرامة، بل ثقافة نقدية تُمكّن الأفراد من طرح السؤال الأهم:
هل ما نراه على الشاشات توعية… أم تسويق مقنّع باسم الطب؟




