إستونيا..الثورة التعليمية تبدأ من الهاتف والذكاء الاصطناعي

في مفارقة لافتة، وبينما تتسابق العديد من الدول حول العالم إلى فرض حظر أو قيود صارمة على استخدام الهواتف الذكية داخل المدارس بهدف تحسين تركيز الطلاب ومنع إهدار الوقت، تتبنى إستونيا، الدولة الأوروبية الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها 1.4 مليون نسمة، استراتيجية تعليمية مختلفة جذرياً.
فبدلاً من الحظر، تدمج إستونيا الجوالات والذكاء الاصطناعي كأدوات أساسية ومركزية لنجاح منظومتها التعليمية.
هذه الاستراتيجية أثمرت فعلياً، حيث تجاوزت إستونيا جارتها فنلندا لتصبح الأفضل أداءً في أوروبا ضمن برنامج تقييم الطلاب الدولي “بيزا” لعام 2022، كما قررت الدولة المضي قدماً وتسريع وتيرة تحولها الرقمي الكامل بتقديم وصول مجاني لأدوات الذكاء الاصطناعي للطلاب اعتباراً من شهر سبتمبر.
كانت إستونيا رائدة في دمج التكنولوجيا منذ زمن، ففي عام 1997 استثمرت بشكل مكثف في البنية التحتية للحواسيب والشبكات، وتم ربط كافة مدارسها بالإنترنت فائق السرعة، واليوم يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي والهواتف الذكية على أنهما القفزة النوعية التالية التي ستنهي عصر التعليم التقليدي القائم على الحفظ والتكرار والتطبيق الذي استمر لمئات السنين.
وفي هذا السياق، تتبنى إستونيا سياسة تشجع المعلمين بنشاط على دمج جوالات التلاميذ كأدوات تعليمية متكاملة داخل الفصول. لم يكن هذا التحول مجرد قرار، بل مبادرة وطنية ضخمة أُطلقت مع بداية العام الدراسي في الأول من سبتمبر تحت اسم “قفزة الذكاء الاصطناعي” (AI Leap).
هذه المبادرة هي شراكة استراتيجية بين القطاعين العام والخاص، تهدف إلى دمج مهارات وقدرات الذكاء الاصطناعي بسلاسة وفعالية في قطاع التعليم، وتهدف إلى تزويد الطلاب والمعلمين بأدوات ومهارات تقنية على مستوى عالمي.
تبدأ خطة التنفيذ بتركيز محدد، حيث توفر المبادرة في البداية وصولاً مجانياً لأدوات التعلم القائمة على الذكاء الاصطناعي لنحو 20 ألف طالب وطالبة من الصفين العاشر والحادي عشر، بالإضافة إلى 3 آلاف معلم لتدريبهم.
وفي العام الذي يليه، تتوسع الخطة لتشمل طلاب الصف العاشر الجدد والمدارس المهنية، ما يضيف 38 ألف طالب وألفي معلم آخرين. وتعتمد آلية التنفيذ على تمكين الطلاب من الوصول لتطبيقات الذكاء الاصطناعي الرائدة عالميًا في المجال التعليمي.
وتؤكد وزارة التعليم والبحث الإستونية أن الهدف ليس تشجيع الطلاب على استخدام الأجهزة الذكية أكثر، بل تعليمهم كيفية استغلالها بذكاء لأغراض التعلم وليس فقط للترفيه. ولضمان جودة الأدوات، بدأت الوزارة مفاوضات مع شركات عالمية عملاقة مثل “أوبن إيه آي” (OpenAI) و”أنثروبيك” (Anthropic)، مع خطط لإشراك المزيد من الشركات.
الأهداف الطموحة لهذه المبادرة تتجاوز مجرد استخدام التقنية؛ فهي تتضمن تدريب المعلمين على هذه التقنية الجديدة مع التركيز على التعليم الذاتي وأخلاقيات التكنولوجيا الرقمية ومحو أمية الذكاء الاصطناعي. ويرى المسؤولون أن هذا المجهود سيجعل إستونيا واحدة من “أذكى” الدول استخدامًا للذكاء الاصطناعي، وليس فقط الأكثر تشبعًا بالتكنولوجيا.
وفي هذا الصدد، أوضح الرئيس الإستوني ألار كاريس أن الذكاء الاصطناعي غير العالم بشكل دائم، وعلى نظام التعليم، شأنه شأن كافة القطاعات، التكيف مع هذه التغييرات، مؤكداً أن المبادرة لا تهدف لاستبدال المعلمين بل تنمية التفكير النقدي وزيادة الوعي التقني لدى الطلاب.
وتشدد لينار فيك، المشاركة في المبادرة، على أن سوق العمل المستقبلي سيشهد تفوقاً لمن يستخدمون الذكاء الاصطناعي “بذكاء”، وليس “بكثافة”، ولهذا لا يمكن لنظام تعليمي مسؤول تجاهل أو حظر التقنيات الحديثة. ولقياس نجاح هذه الثورة التعليمية، ستعتمد إستونيا على مقاييس دقيقة تشمل مدى تبني المدارس والمعلمين للبرنامج، وتحسن مهارات الطلاب والمعلمين بشكل ملموس، وتقييم ما إذا كان التعليم قد أصبح أكثر كفاءة وفعالية.
و تقدم إستونيا نموذجاً رائداً للعالم، كونها واحدة من أوائل الدول التي تدمج التكنولوجيا سريعة التطور بالكامل في صميم نظامها التعليمي، ليس فقط لتحسين مهمة المعلمين، بل لإعداد شبابها بامتياز لعصر الذكاء الاصطناعي، وتوفير تعليم متميز لكل طالب.