الاقتصادية

نهاية اليقين..كيف غيّر اقتصاد الفقراء قواعد اللعبة في محاربة الفقر العالمي

عادة ما يُقال إن الشيئين الأكيدين في الحياة هما الموت والضرائب. لكن في أروقة السياسات العالمية، هناك حقيقة ثالثة شبه مؤكدة: الجدل الأبدي حول كيفية انتشال 1.3 مليار إنسان – يطلق عليهم الاقتصادي بول كولير لقب “المليار الأدنى” – من براثن الفقر المدقع، حيث يعيشون على أقل من دولار وربع يوميًا.

لطالما تحولت هذه القضية الإنسانية إلى حلبة صراع فكري بين مدارس كبرى. في أحد الزوايا، يقف دعاة الضخ الهائل للمساعدات الأجنبية كطوق نجاة، وعلى رأسهم الأكاديمي البارز جيفري ساكس.

وفي الزاوية المقابلة، ترفع أصوات، مثل الاقتصادية الزامبية دامبيسا مويو، لواء “التجارة لا المعونة”، محذرة من أن المساعدات ليست سوى مسكن مؤقت يعمّق الاعتماد. وبين هذا وذاك، تظهر أفكار جذرية تدعو لإنشاء “مدن مستأجرة” كحلول إدارية للنمو.

كل كتاب جديد في هذا المجال يبدو ملزمًا بتقديم “الحل الجذري” الأخير الذي يعلن فشل “النظام القائم”.

وسط هذا الصخب النظري، جاء كتاب “اقتصاد الفقراء: إعادة تفكير جذري في طريقة محاربة الفقر العالمي” (Poor Economics)، لمؤلفيه الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد، أبهيجيت بانرجي وإستر دوفلو، ليقلب الطاولة بهدوء ثوري.

يكمن التغيير الجذري الذي أحدثه الكتاب في تواضعه الفكري. بدلاً من الانخراط في معركة “المساعدات مقابل التجارة”، يطرح المؤلفان سؤالًا بسيطًا ومربكًا في آنٍ واحد: “ما الحل الأفضل لمساعدة الفقراء؟” وتأتي الإجابة التي نسفت سنوات من الافتراضات الشمولية: “الأمر نسبي ويعتمد على السياق”.

يؤكد بانرجي ودوفلو أن الفقر ليس مرضًا واحدًا يحتاج لعلاج موحد. غالبًا ما تُصمم استراتيجيات مكافحة الفقر في العواصم الغنية وتُفرض كحل عالمي، متجاهلة أن الفقراء ليسوا كتلة صماء متجانسة.

هذا التجاهل للتنوع والخصوصية المحلية هو ما حكم على الكثير من المبادرات السابقة بالفشل.

إذا كان المنظور الفكري للكتاب متواضعًا، فإن منهجيته هي قمة الراديكالية. لقد استعار المؤلفان أسلوبًا من عالم الطب، محولين سياسات التنمية إلى “مختبر ميداني” باستخدام التجارب العشوائية المنضبطة (RCTs).

الفكرة بسيطة: لا يتم الاكتفاء بالتنظير، بل يتم اختبار فعالية أي برنامج لمكافحة الفقر (مثل توزيع الناموسيات، أو برامج التحويلات النقدية) بدقة علمية. يتم تطبيق البرنامج على مجموعة (المجموعة العلاجية) وحجبه عن مجموعة أخرى مماثلة (المجموعة الضابطة)، ثم تُقارن النتائج.

هل توزيع الناموسيات مجانًا أفضل من بيعها بسعر رمزي؟ هل القروض متناهية الصغر تزيد الدخل فعلاً؟ بدلاً من الجدل الأيديولوجي، تمنحنا منهجية RCTs، التي رسختها أعمالهما في “مختبر عبد اللطيف جميل لمكافحة الفقر” (J-PAL)، أدلة قائمة على التجربة، لا على مجرد الافتراضات. هذه المنهجية هي الإرث الأعظم للكتاب.

إلى جانب المنهج العلمي الصارم، يغوص الكتاب عميقًا في عقلية الشخص الفقير أو المعدم، بطل القصة المنسي. يطرح الكتاب أسئلة صادمة: لماذا يشتري من يعيش على أقل من دولار تلفازًا بدلاً من طعام مغذٍ؟ لماذا يقترض من مرابٍ بفوائد فاحشة متجاهلاً القروض الميسرة؟

على عكس الافتراضات الشائعة التي ترى الفقراء كضحايا غير عقلانيين، يثبت بانرجي ودوفلو، استناداً إلى تجارب لا حصر لها، أن الفقراء عقلانيون إلى أقصى درجة. لكنهم يتخذون قراراتهم ضمن هيكل حوافز وقيود وسياقات اجتماعية تختلف جذريًا عن تلك التي يعيشها صانعو السياسات في مكاتبهم المكيفة.

على سبيل المثال، يقدّم الكتاب تفنيدًا شهيرًا لـ “أسطورة التمويل الأصغر”. رغم رواج هذه القروض كحل سحري، كشفت التجارب الميدانية أن الفقراء يفضلون المقرض المحلي الجشع أحيانًا؛ ليس لأنه أرخص، بل لأنه مرن ويقدم جداول سداد قابلة للتفاوض، متفهمًا الظروف الطارئة.

في المقابل، تفرض مؤسسات التمويل الأصغر جداول سداد صارمة وغير مرنة. هذه المرونة الاجتماعية لا تقدر بثمن لشخص يعيش على حافة الهاوية.

في جوهره، لا يُعد “اقتصاد الفقراء” مجرد نقد للنظريات الكبرى، بل هو دعوة عميقة لتغيير طريقة مقاربة المشكلة. لقد نقل المعركة من “غطرسة الخبراء” الذين يملكون الإجابات الجاهزة، إلى “تواضع الباحثين” الذين يتقنون فن السؤال والاستماع والاختبار.

إن الإرث الحقيقي لهذا العمل لا يكمن في تقديم حلول نهائية، بل في تغيير طريقة طرح السؤال ذاته. إنه يذكرنا بأن الخطوة الأولى والأكثر أهمية لمساعدة الفقراء بصدق هي أن نتوقف عن الحكم عليهم، ونبدأ بفهمهم كبشر عقلانيين، لكل منهم منطق وكرامة وقصة فريدة.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى