مناعة رقمية في زمن التزييف: كيف نحمي وعينا من التضليل المعلوماتي؟

بمجرد أن نمد أيدينا نحو هواتفنا الذكية وننقر على إشعاراتها المتتالية، لا نكون بصدد مجرد تصفح معلومات عابرة، بل ندخل عن غير وعي إلى ميدان حرب غير تقليدية. إنها معركة على وعي الإنسان، على إدراكه للواقع، على ثقته بنفسه وبالآخرين.
لم يعد العالم الرقمي نافذتنا النقية نحو المعرفة، بل صار ميدانًا شديد التعقيد، تتقاطع فيه خيوط التضليل، التزييف العميق، والخوارزميات التي تدفعنا نحو الشك والانقسام.
في هذا السياق، لم تعد مهارات التحقق من المعلومات و”محو الأمية الإعلامية” ترفًا أكاديميًا، بل صارت بمثابة درع وجودي يحمي المجتمعات من الانهيار المعرفي والتشظي الثقافي.
اعتادت الجهود المناهضة للتضليل أن تتمحور حول التوعية الفردية، خاصة في أوساط الشباب. غير أن تسارع انتشار الأخبار الزائفة، وتعقيد أدوات إنتاجها، أظهر أن هذا النهج، رغم أهميته، ليس كافيًا.
وهنا جاء تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي المعنون “إعادة التفكير في محو الأمية الإعلامية: نموذج بيئي جديد لسلامة المعلومات” ليطرح تحولًا حاسمًا: من التركيز على الوقاية الفردية إلى بناء “مناعة معلوماتية جماعية”.
يعتمد هذا النموذج على خمس طبقات مترابطة تؤثر في كيفية استقبالنا للمعلومات:
-
الفردي: عبر تعزيز التفكير النقدي وترويض ردود الأفعال العاطفية.
-
الشخصي: من خلال الدور الذي يلعبه المحيط الأسري والاجتماعي في تصحيح المعلومات.
-
المجتمعي: حيث تلعب المؤسسات التعليمية والإعلامية دورًا في بناء خطاب عام متماسك.
-
المؤسسي: مع تسليط الضوء على المنصات الرقمية التي تتحكم بالخوارزميات وتعيد تشكيل ما نراه.
-
السياسي: عبر سن قوانين واضحة تحاسب وتوجه الجهات الفاعلة في المجال المعلوماتي.
لفهم كيفية مواجهة هذه الظاهرة، يُقترح النظر إلى التضليل كفيروس، له دورة حياة تبدأ من “الحضانة” وتنتهي بـ”الأثر طويل الأمد”:
-
الحضانة: هل لدينا وعي وقائي ضد نظريات المؤامرة؟
-
الإنتاج: كيف أصبحت الأكاذيب تُصنّع بشكل متقن بفضل الذكاء الاصطناعي؟
-
الانتشار: كيف تساهم خوارزميات التواصل الاجتماعي في نشر المعلومة الكاذبة بسرعة غير مسبوقة؟
-
الاستهلاك: كيف يتفاعل الناس؟ هل يتحققون من صحة ما يُنشر أم ينخرطون في إعادة نشره؟
-
ما بعد الإصابة: كيف نداوي آثار الأكاذيب على الذاكرة الجمعية والمشاعر العامة بعد انكشاف الحقيقة؟
لا تكمن خطورة التضليل فقط في التقنية التي تُستخدم فيه، بل في التواطؤ الصامت أو الجهل الجماعي الذي يسهّل انتشاره.
إنها معركة قيم: هل نريد عالمًا رقميًا قائمًا على الثقة والصدق؟ أم نرضى بمنصات تتلاعب بعقولنا وأولوياتنا؟
التحدي الحقيقي ليس في وجود الحلول التقنية، بل في توفر الإرادة السياسية والاجتماعية لتطبيقها. التغيير الحقيقي يتطلب تناغمًا بين صناع القرار، شركات التكنولوجيا، المؤسسات التعليمية، والإعلام الحر.
نحن نعيش لحظة تاريخية يعاد فيها تعريف الحقيقة من خلال الشاشات. في مواجهة هذا الواقع، لا يكفي أن نمتلك الأدوات، بل يجب أن نمتلك الشجاعة، لبناء مجتمعات نقدية، متيقظة، وقادرة على مقاومة الكذب وتضميد جراحه.
الوعي، في هذا العصر، لم يعد مجرد حق، بل صار واجبًا. معركة الحقيقة لا تحتمل التأجيل.