وزير فرنسي سابق يسعى لتخفيف القيود على الذكاء الاصطناعي
جالت شوارع باريس وبروكسل في نهاية نوفمبر حافلات صغيرة في مسيرة هدفها التحذير من أن أوروبا تكاد تفوت فرصة السيطرة على الذكاء الاصطناعي. كان ممثلو فرنسا قد انسحبوا في وقت سابق من ذاك الشهر من اتفاق يهدف إلى سنّ تشريع بالغ الأهمية يعرف باسم “قانون الذكاء الاصطناعي” لاعتراضهم على بعض القيود المقترحة على ما يُعرف بنماذج التأسيس، أي برامج الذكاء الاصطناعي متعددة الأغراض التي تسمح بتشغيل منتجات مثل “تشات جي بي تي”.
حملت إحدى تلك الحافلات لوحة كتبت عليها عبارة: “قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي من دون نماذج التأسيس يشبه قانوناً للمناخ يستثني شركات النفط الكبرى”، فيما حملت حافلة أخرى صورة الرجل الذي يحمّله الناشطون في الحملة المسؤولية عن ذلك، وهو سيدريك أو، السياسي السابق الذي التحق بشركة الذكاء الاصطناعي الأبرز في أوروبا “ميسترال إيه آي” (Mistral AI).
كان “أو” وزيراً للشؤون الرقمية في فرنسا، واشتهر بأنه لا يكف عن انتقاد شركات التقنية الأميركية وبتأييده الشرس لتنظيم القطاع. وكان عضواً في الحكومة حين طرح قانون الذكاء الاصطناعي في 2021، لكنه غادرها في 2022 والتحق بشركة “ميسترال” لدى تأسيسها في أبريل 2023. أصبح خلال الصيف أحد أبرز منتقدي خطط الاتحاد الأوروبي. وتبين تطورات دوره التباينات بين رغبة أوروبا بأن تلعب دوراً طليعياً في تنظيم الذكاء الاصطناعي وبين خشيتها من التخلّف عن التحوّل التاريخي الذي يتوقع أن يشهده الاقتصاد.
تخفيف القيود
قال أو عبر مقالات وفي اجتماعات مغلقة إن الشركات العملاقة في وادي السليكون هي الوحيدة التي ستكون قادرة على الامتثال للشروط الأكثر صرامة المقترحة ضمن قانون الذكاء الاصطناعي، وأن هذا سيجعل الشركات الأوروبية في المرتبة الثانية في القطاع إلى الأبد.
نشر أو في يونيو رسالة مفتوحة باسم أكثر من 150 مسؤولاً تنفيذياً، حث فيها المسؤولين الأوروبيين لتعديل مشروع القانون “كي لا يقوّض تنافسية أوروبا وسيادتها في مجال التقنية”. كما حذّر في أكتوبر من أن مشروع القانون “سيقضي” على “ميسترال”.
يبدو أن تحذيراته قد حققت هدفها، فقد توصّل المسؤولون في بروكسل في 8 ديسمبر إلى اتفاق أولي بشأن قانون الذكاء الاصطناعي يفرض بعض شروط الشفافية على نماذج التأسيس، ولكنه ليس بمستوى الصرامة الذي كان مزمعاً.
اقتصرت القيود الأشد على النماذج التي تتطلب كماً معيناً من الموارد الحاسوبية، وقد أتت مستلزمات “ميسترال” أدنى من ذلك الحد. كما أن الشركة الناشئة أُعفيت من بعض الشروط لأن تقنيتها مفتوحة المصدر، أي أن شيفرتها البرمجية متاحة للجمهور. في 11 ديسمبر، أعلنت “ميسترال” أنها أقامت جولة تمويل جديدة جعلت قيمتها تقدر بملياري دولار.
مع ذلك، يخشى أنصار الشركة أن تضطر قريباً للخضوع إلى هذه القيود مع استمرارها بالنمو، أو في حال استخدام الشركة في حالات عالية المخاطر مثل إنفاذ القانون. قال رئيس “ميسترال” التنفيذي أرثر منش في مقابلة مع محطة إذاعية فرنسية إن القانون الجديد قد يطرح عوائق. أضاف: “لا ينبغي أن نسرع لقص أجنحتنا عبر فرض قواعد تنظيمية بسرعة”. وقد أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مخاوف حيال بعض الشروط المتعلقة بنماذج التأسيس في قانون الذكاء الاصطناعي، قائلاً إنه سيدرس القانون بشكل إضافي.
تضارب مصالح
بالنسبة لآخرين، بدت مواقف “أو” كمثال وقح عن مسؤول سابق ينتفع من سلطته لمصلحة شركته. وقال عديد من المسؤولين في الاتحاد الأوروبي الذين يعملون على قانون الذكاء الاصطناعي في بروكسل إن “أو” ضغط بالنيابة عن عمالقة شركات التقنية الأميركية.
قال أندريا ميوتي، الاستشاري السابق في بروكسل الذي أنشأ المنظمة غير الربحية “كونترول إيه آي” (Control AI) المسؤولة عن مسيرة الحافلات الاحتجاجية: “من الواضح لمن ينظر من الخارج أن الأمر عبارة عن تضارب مصالح في أحسن الأحوال”. (عند السؤال عن الحافلات، تساءل أو عن الجهة التي مولتها، إلا أن ميوتي لم يكشف معلومات عن الجهة التي تمول مجموعته).
من جهته، يقول أو إن مواقفه لم تتغير، شارحاً في رسالة عبر البريد الإلكتروني أن “معركة (ميسترال) هي نفسها… لا يوجد أي تضارب لأن المصلحة الوحيدة التي أدافع عنها هي مصلحة (ميسترال) وقطاع التقنية الأوروبي”.
لمع نجم أو في الساحة السياسية مع صعود حزب ماكرون. عُيّن وزيراً للشؤون الرقمية في 2019 واكتسب سمعة على امتداد أوروبا كخبير ملتزم ومدافع شرس عن المصالح الوطنية. قبل أن تلتقي جانيت زو فورستينبرغ، وهي مستثمرة ألمانية في صندوق رأس المال الجريء “لا فاميليا” (La Famiglia) مع أو، كل ما كانت تعرف عنه أنه “شخصية أسطورية” أسهمت في إقناع كبار المستثمرين بضخ مزيد من الأموال في قطاع التقنية الفرنسي. قالت: “إنه شخص يسعى خلف هدفه بشدّة وهو مخلص لمهمّته”.
انطلاقاً من منصبه الوزاري، غالباً ما كان أو يهاجم شركات التقنية الأميركية لممارساتها الاحتكارية ولسماحها بانتشار خطاب الكراهية وتقويض الديمقراطية. كما دعم في 2019 فرض فرنسا ضريبة بنسبة 3% على كافة شركات الإنترنت الكبرى، وهي خطوة أثارت توترات جيوسياسية. بعدها، حين انكب الاتحاد الأوروبي على وضع قواعد لمراقبة المحتوى والمنافسة، اتخذ موقفاً صلباً في وجه عمالقة شركات التقنية الأميركية. وحين تولّت فرنسا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، نجحت في جعل مسوّدة الذكاء الاصطناعي تتضمن الذكاء الاصطناعي متعدد الأغراض.
تأسيس “ميسترال”
حين غادر “أو” الحكومة في أبريل 2022، حاول الالتحاق بمجلس إدارة شركة “أتوس” الفرنسية المتخصصة بتقنية المعلومات، إلا أنه واجه حظراً من الهيئة العليا للشفافية، الجهة المسؤولة عن مراقبة المسؤولين الحكوميين السابقين في فرنسا. إلا أنها سمحت له بإنشاء شركة استشارية، هي “نوبونتيو” (Nopeunteo)، شريطة ألا يمارس التحشيد لصالحها في وزارته السابقة لمدة ثلاث سنوات.
سرعان ما بدأ بالعمل مع ثلاثة علماء فرنسيين سبق أن عملوا على بناء نماذج لغوية ضخمة لدى “ديب مايند تكنولوجيز” (DeepMind Technologies) و”ميتا بلاتفورمز” (Meta Platforms) وكانوا يرغبون بتجربة أمر جديد. أسسوا معاً “ميسترال” في أبريل 2023 وبدأوا يعملون بأقصى سرعة، فأطلقوا عدة نماذج بعدما جمعوا 113 مليون دولار في جولة التمويل الأولى في يونيو.
طرحت الشركة نفسها كرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي الأوروبي، وهي تعتبر “أو” مؤسساً شريكاً لا يتولى منصباً تنفيذياً، وكان يملك 1.17% من الشركة في مايو، حسب المستندات العامة للشركة. (يقول أو إنه يلتزم بشدّة بالقواعد الناظمة المتعلقة بالضغط على الجهات الحكومية).
وجهة نظر أوروبية
يرى “أو” أن على القانون أن يحكم الاستخدامات الخطيرة للذكاء الاصطناعي وليس النماذج التي تكمن خلفه.
بعد فترة قصيرة من رسالته، بدا أن الحكومة الفرنسية غيرت موقفها، معتبرة أنه على الشركات التي تطوّر الذكاء الاصطناعي متعدد الأغراض أن تلتزم فقط بقواعد شفافية أساسية وميثاق سلوك، فيما تُفرض القيود الأشد على استخدامات الذكاء الاصطناعي في أعمال الشرطة والتحقق من المرشحين إلى الوظائف.
رفض أو و”ميسترال” التعليق على قانون الذكاء الاصطناعي. وفي إطار اتفاقية جمع الأموال لصالح الشركة، باع كل من مؤسسي “ميسترال” الثلاثة التنفيذيين حصصاً تساوي أكثر من مليون يورو (1.1 مليون دولار)، فيما باع أو حصصاً أقل قليلاً من ذلك، حسب نسخة عن شروط الاتفاقية.
لا يرى المدافعون عن أو في فرنسا تضارب مصالح في دوره الحالي. وقال سياسي فرنسي في حزب ماكرون إن أو “يملك الحق بمتابعة حياته بعد منصبه الوزاري”.
قال هوغو وبر، نائب رئيس شركة “ميراكل” (Mirakl) للتجارة الإلكترونية في فرنسا إن الشركات الأوروبية، التي لا تستطيع التنافس مع التحشيد الذي تمارسه نظيراتها الأميركية للضغط على بروكسل، رحبت بعلو صوت “ميسترال”. وأضاف: “لدينا شخص متنفذ يطرح وجهة نظر أوروبية، هذا ممتاز”.