هل الأسواق المالية تساوي بين الجميع؟ الحقيقة وراء شعار “عدالة السوق”

غالبًا ما يُصوَّر سوق المال على أنه مساحة متاحة للجميع، حيث يُمكن لكل فرد، بغض النظر عن خلفيته أو حجم رأس ماله، المشاركة بفرص متكافئة للنجاح.
لكن، رغم شعارات مثل “تكافؤ الفرص” التي ترفعها بورصات عالمية مثل وول ستريت والأسواق الأوروبية، يتزايد الجدل حول مدى تحقق هذه العدالة في ظل التحولات التقنية والهيكلية الحديثة.
رغم توافر أدوات تداول متقدمة وتطبيقات استثمار سهلة للمستثمرين الأفراد، تشير البيانات إلى تباين واضح في الأداء والفرص بين المستثمر الفردي والمؤسسات الكبرى. فهل الأسواق حقًا تقدم معاملة عادلة لكل الأطراف؟ أم أن هناك عوامل خفية تُفضّل جهة على أخرى؟
نظريًا، تعني عدالة السوق تمكين جميع المستثمرين من الوصول المتساوي للمعلومات وتنفيذ الصفقات في بيئة شفافة ومحايدة، مما يوزع الفرص والمخاطر بشكل عادل. وتعتبر هيئات التنظيم مثل هيئة الأوراق المالية الأمريكية والهيئة الأوروبية للأوراق المالية أن العدالة هي حجر الزاوية لنزاهة الأسواق.
لكن في الواقع، تتحكم المؤسسات الاستثمارية الكبرى مثل صناديق التحوط والتقاعد في الجزء الأكبر من رأس المال العالمي، حيث تمثل أكثر من 80% من التداولات اليومية في سوق الأسهم الأمريكية، وأكثر من 75% من ملكية الأسهم في أوروبا.
هذا التركز يمنحها ميزات تنافسية، مثل تقليل تكاليف التنفيذ، والوصول الحصري إلى الطروحات الخاصة، واستخدام تقنيات متطورة مثل التداول عالي التردد، مما يتيح لها ميزة زمنية قيّمة لا تتوفر للمستثمر الفرد.
يواجه المستثمر الفرد تحديات كبيرة، منها رسوم تداول مرتفعة، تأخر وصول البيانات، وعدم إمكانية الوصول إلى منتجات مالية معقدة في كثير من الأسواق.
و على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، رغم وجود قوانين تمنع الإفصاح الانتقائي، تظل المؤسسات قادرة على الاشتراك في خدمات بيانات وتحليلات فورية يصعب على الأفراد تحمل تكلفتها.
مقارنة العوامل السلوكية بين المستثمرين الأفراد والمؤسسات
العامل السلوكي |
المستثمرون الأفراد |
المستثمرون المؤسساتيون |
التحكم في العاطفة |
ضعيف نسبيًا |
مرتفع |
الاستجابة للأخبار السلبية |
ميل للبيع العاطفي |
الشراء عند الانخفاضات غالبًا |
توقيت الدخول والخروج |
غالبًا يدخلون عند القمم ويخرجون عند القيعان |
منضبط وفق قرارات مدروسة واستراتيجيات طويلة الأجل |
الاعتماد على التحليل |
بسيط |
عميق |
إدارة المخاطر |
محدودة – لا توجد أدوات متقدمة أو فريق متخصص |
احترافية – فرق لإدارة المخاطر، وتطبيق استراتيجيات تحوّط |
تكرار التداول |
مفرط أحيانًا بسبب متابعة الضجيج الإعلامي |
محسوب مع تداول أقل لكن بكميات أكبر وبتكلفة أقل |
رد الفعل للتقلبات |
يميل إلى اتخاذ قرارات قصيرة الأجل وعشوائية |
استراتيجي – قد تستغل التقلبات لبناء مراكز أو تعديل المحافظ |
وبحسب تقرير “وول ستريت جورنال” 2022، تستطيع الصناديق الكمية استغلال الأخبار الاقتصادية في أجزاء من الثانية قبل أن تصل إلى الإعلام العام، بينما يعاني المستثمر الفرد من تأخر في الوصول للمعلومة.
في أوروبا، رغم جهود هيئة الأسواق لتعزيز الشفافية، فإن ارتفاع تكاليف الامتثال يضر بالوسطاء الصغار، ما يقلل من التغطية البحثية للأسهم الصغيرة التي يهتم بها المستثمرون الأفراد.
غالبًا ما تنفذ المؤسسات صفقاتها في أسواق تداول مظلمة، تتيح تداول كميات كبيرة دون التأثير على الأسعار، بعيدًا عن الرقابة العامة. ففي الولايات المتحدة، يحدث أكثر من 40% من تداولات الأسهم خارج البورصات الرسمية.
أما المستثمر الفرد، فتُوجَّه أوامره إلى شركات متخصصة تُدعى “صُنّاع السوق”، التي تشتري حقوق تنفيذ الأوامر من تطبيقات التداول مثل روبنهود، ضمن نظام “الدفع مقابل تدفق الأوامر”. هذا النظام يتيح تداولًا دون عمولة للمستثمر الفرد، لكنه يثير تساؤلات حول جودة تنفيذ الأسعار.
وقد برز هذا الجدل بحدة خلال أزمة أسهم “جيم ستوب” في يناير 2021، حين حدّت تطبيقات التداول من عمليات الشراء، مما اعتُبر دعمًا للمؤسسات الكبرى على حساب المستثمرين الأفراد، وكشف عن ضعف شفافية وقدرة الأفراد على توجيه أوامرهم.
الاختلاف بين المستثمرين الفرديين والمؤسسات لا يقتصر على التكنولوجيا أو رأس المال فقط، بل يشمل السلوكيات النفسية. يميل الأفراد للوقوع في أخطاء مثل الخوف من تفويت الفرصة، التفاؤل المفرط، أو الذعر في أوقات التراجع، ما يؤثر سلبًا على توقيت قرارات البيع والشراء.
وأظهر تقرير لشركة “مورننج ستار” أن المستثمرين الأفراد يحققون عوائد أقل بنسبة 1.7% سنويًا مقارنة بالصناديق التي يستثمرون فيها، بسبب قرارات خاطئة في التوقيت.
كما توضح دراسة من MIT أن الأفراد يبالغون في رد الفعل على الأخبار السلبية مقارنة بالمؤسسات، مما يجعلهم أكثر عرضة للبيع العاطفي في أوقات الأزمات، مثلما حدث خلال أزمة كوفيد-19 في مارس 2020.
العدالة في الأسواق لا تعني تحقيق نتائج متساوية للجميع، لكنها تتطلب توفير فرص متكافئة في الوصول للمعلومات، تقليل تكاليف التداول، وتسهيل المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار الاستثماري.
في هذا السياق، تحاول هيئات التنظيم في أوروبا وأمريكا تعزيز الشفافية وحماية المستثمر الفرد، عبر تشريعات تهدف إلى تحسين تنفيذ الأوامر وزيادة المنافسة بين صناع السوق. ومع ذلك، تواجه هذه الإصلاحات مقاومة من المؤسسات الكبرى التي تستفيد من الوضع القائم.
لتحقيق عدالة حقيقية، يجب توفير وصول فوري للبيانات للجميع، تنظيم أو إلغاء نظام “الدفع مقابل تدفق الأوامر”، والحد من التداول في الأسواق المظلمة. كما يلعب التعليم المالي دورًا حيويًا في تمكين الأفراد من اتخاذ قرارات استثمارية مدروسة بعيدًا عن الانحيازات النفسية.
تبقى الأسواق المالية من أقوى أدوات بناء الثروة، ولكي تستمر في أداء هذا الدور، يجب العمل على خلق بيئة أكثر إنصافًا للجميع.
هذا لن يتحقق فقط بتعديلات تنظيمية أو تقنية، بل يحتاج إلى تحول جوهري في قيم الشفافية والمساءلة، مع تعزيز الثقافة المالية لدى المستثمرين الأفراد. وإلا، فسيظل حلم “عدالة السوق” شعارًا بعيد المنال.