الاقتصادية

الدولار المتزعزع: هل بدأ عصر الهيمنة النقدية الأمريكية في الانحسار؟

منذ عقود، شكّل الدولار الأمريكي العمود الفقري للنظام المالي العالمي، مستفيدًا من مكانة استثنائية منحته قدرة فريدة على التأثير في مسارات الاقتصاد الدولي.

هذه الهيمنة لم تأتِ من فراغ، بل ترسّخت بفعل شبكة معقدة من السياسات والمؤسسات والمعايير التي جعلت من العملة الخضراء أداة نفوذ لا غنى عنها.

ومع ذلك، فإن هذا الامتياز لم يكن دائمًا محل ترحيب؛ بل وُصف مرارًا بأنه “امتياز مفرط” يمنح الولايات المتحدة سلطة لا تتناسب مع التوازنات الاقتصادية الجديدة.

منذ ستينيات القرن الماضي، بدأت أصوات – أبرزها من فرنسا – تندد بهيمنة الدولار، محذّرة من آثارها على السيادة النقدية للدول الأخرى.

إلا أن الانفجار المالي في عام 2008، وما تبعه من تراجع الثقة في الأسواق الأمريكية، شكل منعطفًا في هذه الانتقادات، إذ برزت دول كالصين والبرازيل لتطرح تساؤلات أكثر جرأة حول من منح الدولار هذا “العرش” بعد انهيار نظام بريتون وودز.

المفارقة أن واشنطن نفسها لم تُظهر رغبة دائمة في تكريس هذه الهيمنة. فمنذ أن ألغى الرئيس ريتشارد نيكسون ربط الدولار بالذهب عام 1971، راود بعض صنّاع القرار حلم التحرر من أعباء هذه المسؤولية النقدية.

ومع ذلك، أثبتت التجربة أن القدرة على طباعة الدولار من دون قيود واقعية، منحت الولايات المتحدة قوة اقتصادية وجيوسياسية غير مسبوقة.

 

في العقود التالية، لم يَعُد الدولار مجرد وسيلة للتبادل التجاري، بل تحوّل إلى أداة ضغط سياسية فاعلة. فقد مكّن التحكم الأمريكي في النظام المالي العالمي من فرض عقوبات اقتصادية واسعة النطاق دون الحاجة لتدخل عسكري، وهي الظاهرة التي تناولها بالتفصيل كل من بول بلوستين في كتابه “ملك الدولار”، وإدوارد فيشمان في “نقاط الاختناق”.

بلوستين يغوص في تاريخ هيمنة الدولار وأسباب صمودها، بينما يركّز فيشمان، الذي شغل مناصب رفيعة في الخارجية الأمريكية، على كيفيّة تطويع العقوبات الاقتصادية لتصبح جزءًا أصيلًا من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية.

بحسب فيشمان، فإن العالم دخل في عصر جديد يُعرف بـ”الحرب الاقتصادية”، حيث تحوّلت العقوبات من استثناء إلى قاعدة.

King dollar's shaky crown - The Hindu BusinessLine

ويرصد هذا التحول من خلال أربع محطات: عقوبات إيران، الرد على ضمّ روسيا للقرم، الحرب التكنولوجية مع الصين، والعقوبات المعممة بعد غزو روسيا لأوكرانيا في 2022.

تكشف هذه التجارب عن اتساع أدوات الضغط الاقتصادي، من تجميد الأصول إلى التحكم في سلاسل التوريد العالمية، وصولًا إلى سياسات معقدة مثل فرض سقف على أسعار صادرات الطاقة الروسية.

 

رغم ما تحققه هذه الأدوات من نتائج فورية، يطرح فيشمان سؤالًا جوهريًا: هل ما تزال العقوبات فعالة في إحداث تغييرات استراتيجية؟ الواقع يشير إلى تحديات كبرى؛ فروسيا تواصل حربها، والصين تمضي في تعزيز نفوذها، وكثير من الأنظمة المستهدفة بالعقوبات لا تزال صامدة.

بلوستين، من جانبه، يتبنى رؤية أكثر تفاؤلًا، إذ يرى أن الهيمنة النقدية – رغم أعبائها مثل ارتفاع قيمة الدولار – تمنح الولايات المتحدة مزايا شبه فريدة، ويعتبر أن البدائل المقترحة، مثل اليورو والعملات الرقمية، لم تصل بعد إلى مرحلة النضج الكافي لتهديد مكانة الدولار.

ورغم الثقة النسبية في استمرارية هيمنة الدولار، فإن التحولات الجارية تشير إلى بداية نهاية مرحلة أحادية القطب. دول كروسيا، الصين، والهند تسعى بوضوح إلى إعادة هيكلة النظام المالي العالمي، وتعزيز استخدام عملاتها في التجارة، وتقليص اعتمادها على الدولار.

البنوك المركزية حول العالم بدأت تقلل من احتياطاتها بالدولار، وتعزز حيازتها من الذهب واليوان. وفي الوقت ذاته، تلجأ شركات كبرى إلى العملات الرقمية كأدوات تحوط ضد سياسات واشنطن المالية.

في جوهره، لا يعكس الدولار وضعًا نقديًا فقط، بل يُجسد الثقة العالمية في المؤسسات الأمريكية، من القضاء إلى الاقتصاد. وإذا ما تراجعت هذه الثقة، فإن تآكل قيمة الدولار سيكون عرضًا لأزمة أعمق تمس البنية الكاملة للنظام الأمريكي.

بلوستين يحذّر من أن انهيار الدولار لا يجب أن يُفهم كمشكلة مالية فحسب، بل كمؤشر على اضطراب أكبر قد يُعيد تشكيل النظام العالمي برمّته.

حتى الآن، يظل الدولار هو الملك غير المتوَّج للنظام المالي العالمي. لكنه ملك يتعرض لضغوط غير مسبوقة، وقد لا يكون عرشه آمنًا في عالم يتجه بسرعة نحو التعددية النقدية والقطبية. يبقى السؤال مطروحًا: هل المستقبل للدولار… أم لعالم جديد يتقاسم النفوذ النقدي بين قوى متعددة؟

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى