الاقتصادية

أزمة الرأسمالية الديمقراطية..بين التوقعات المتفائلة والواقع المرير

في عام 2004، قدّم الصحفي الاقتصادي مارتن وولف في كتابه “لماذا تنجح العولمة” رؤية متفائلة عن العلاقة بين الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية، مشيرًا إلى أن النظامين السياسي والاقتصادي معًا قادران على توفير رخاء مستدام واستقرار سياسي طويل الأمد.

وكان هذا التصور انعكاسًا لرأي النخب السائدة في حقبة انتصر فيها الغرب بعد الحرب الباردة، مؤكدًا على تفوق الرأسمالية الديمقراطية كأفضل نموذج للتنظيم الاجتماعي.

ومع مرور العقود، بدأ الواقع يتناقض مع هذا التفاؤل، وهو ما اعترف به وولف نفسه في كتابه الجديد “أزمة الرأسمالية الديمقراطية”، حيث يبرز التحول الكبير في المشهد السياسي والاقتصادي.

شهدت الثمانينيات من القرن الماضي تحولًا جذريًا في السياسات الاقتصادية، حيث قاد زعماء مثل مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في الولايات المتحدة هذا التحول، والذي تمثل في خصخصة الأصول العامة، وتقليص دور دولة الرفاه، وتحرير الأسواق.

Communist Democracy vs. Capitalist Dictatorship — Hive

في التسعينيات، طُبقت سياسات “العلاج بالصدمة” لتحويل الاقتصادات الشيوعية السابقة إلى أسواق حرة، وفرضت سياسات “التعديل الهيكلي” في آسيا بعد الأزمة المالية عام 1997.

و على الرغم من التوسع الكبير للأسواق، لم يتحقق “الرخاء المستدام” الذي كانت العولمة قد وعدت به. في الواقع، كانت معدلات النمو الاقتصادي في عصر العولمة أقل بكثير من تلك التي شهدتها عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تتميز بتدخل حكومي أكبر في الاقتصاد.

تجاوزت تأثيرات هذه السياسات الجوانب الاقتصادية لتشمل الجانب السياسي أيضًا. ففي العديد من البلدان، أسهمت الأزمات الاقتصادية والركود في صعود الزعماء الشعبويين الذين يتبنون مواقف مناهضة للمؤسسات الديمقراطية.

وأصبح من الصعب الجمع بين اقتصاد السوق والديمقراطية الليبرالية، مما أدى إلى تفاقم التآكل في الديمقراطية.

في كتابه الجديد، يشير وولف إلى أن الاقتصاد قد أضعف الاستقرار السياسي، معترفًا بأن النظام الليبرالي الذي كان يُنظر إليه في البداية كمنقذ قد أصبح الآن مصدرًا لمشاكل عميقة.

وبينما كانت الوعود التي قدمتها العولمة غير قادرة على الوفاء، تزايدت مشاعر الإحباط وفقدان الثقة في النخب السياسية والاقتصادية.

يركز وولف في تحليله على إخفاقات النخب السياسية والاقتصادية، موضحًا أن هذه الإخفاقات لم تكن مجرد نتيجة لضيق الأفق، بل كانت تعبيرًا عن فساد أخلاقي وفكري في مجالات التمويل والإعلام والتعليم والسياسات العامة.

هذه الأخطاء أسهمت في تفكيك الثقة العامة في الأسواق الليبرالية، حيث يرى المواطنون أن النظام يخدم مصالح النخب فقط، بينما يعاني الجميع من الأعباء الاقتصادية.

على الرغم من تشخيصه العميق للأزمة، يرفض وولف الدعوات لتغيير جذري شامل. ويستند في ذلك إلى الفيلسوف كارل بوبر الذي دعا إلى “التغيير الاجتماعي التدريجي”، الذي يشمل معالجة المشكلات بشكل تدريجي مع تحديد الأهداف.

Tools of Capitalism: Have The Free-World Governments Become a de-facto Tool of the Capital Wealth Ruling? | Moses Solemon

ومع ذلك، فإن بعض هذه الحلول يثير جدلاً، مثل رفضه لفكرة التعليم العالي المجاني نظرًا للأعباء المالية التي قد تترتب عليه.

منذ الأزمة المالية لعام 2008، أصبحت التحديات المرتبطة بالتفاوت الاقتصادي أمرًا لا يمكن تجاهله. هذا الفشل في تحقيق المساواة السياسية جنبًا إلى جنب مع التفاوت الاقتصادي المستمر قد أدى إلى أزمة في الشرعية العالمية، حيث يجذب هذا الوضع شخصيات مناهضة للنظام الليبرالي مثل دونالد ترامب وفيكتور أوربان.

على الرغم من أن وولف يُعتبر أحد المدافعين عن النيوليبرالية، فإن تحليله يبدو في بعض الأحيان مُنغمسًا في التبرير، حيث يُعرض الأحداث التاريخية الكبرى مثل ضعف النقابات العمالية أو تراجع الصناعات الغربية على أنها وقائع طبيعية، دون تسليط الضوء على الصراعات الاجتماعية والسياسية التي أدت إلى تلك التغيرات.

يرى وولف أن الأزمة الحالية ترتبط بشكل رئيسي بتفكيك الطبقة المتوسطة، وهي الفئة التي اعتبرها أرسطو أساسًا للديمقراطية. ومع ذلك، لم يقدم وولف تحليلًا عميقًا للأسباب السياسية والاقتصادية التي أدت إلى تدهور هذه الطبقة الحيوية.

في نهاية المطاف، يشير كتاب وولف إلى إخفاقات التحول النيوليبرالي، ويقدم حلولًا إصلاحية تدريجية بدلاً من التغيير الجذري المطلوب.

وبينما يعترف بتدهور الطبقة المتوسطة كسبب رئيسي للأزمة، إلا أنه يتردد في استعراض التدخلات الجذرية اللازمة لإعادة التوازن بين المساواة السياسية والعدالة الاقتصادية.

ربما يكمن الدرس الأهم في إدراك أن الصراعات المتعلقة بتوزيع الثروة هي جزء لا يتجزأ من النظام الرأسمالي نفسه. إذا لم تُعالج هذه التناقضات بشكل جريء، فإن التصدعات التي ظهرت بعد أزمة 2008 ستستمر في الاتساع، مما يؤدي إلى المزيد من صعود التيارات الشعبوية وزعزعة الاستقرار.

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى